ان الفرد المنضوي منذ بعض الوقت في وسط جمهور هائج سرعان ما يسقط في حالة خاصة تشبه كثيرا حالة الانجذاب الشديد الذي يشعر به المنوم مغناطيسيا تجاه منومه ، و بما أن حياة الدماغ تصبح مشلولة لدى الانسان المنوم مغناطيسيا ، فإنه يصبح عبدا لكل فعالياته اللاواعية ، و يصبح منومه قادرا على توجيهه حيث يشاء و هكذا تصبح الشخصية الواعية مغميا عليها ، و تصبح ارادة التمييز و الفهم ملغاة ، إن هذا الذي يحصل عند المنوم مغناطيسيا هو نفسه الذي يحصل للفرد المنخرط في جمهور ، فهذا الفرد لايعود واعيا بأعماله و يخضع لتأثير و إيحاء الجمهور ، فتكون حالته أشبه بحالة المنوم مغناطيسيا بمعنى أن بعض ملكاته تصبح مدمرة ، في حين أن بعضها تصبح مستنفرة إلى أقصى حد ، فينجرف مع آراء الجماعة و لا يعود له رأيه الخاص و هكذا لا يعود هو الفرد نفسه ، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي تسيره أفكار الجماعة حيث شاءت . فالفرد عندما يكون معزولا ربما يكون انسانا مثقفا متعقلا و لكنه ما إن ينضم الى جماعة معينة حتى يصبح مسيرا من قبل تلك الجماعة . على هذا النحو يمكننا أن نفهم كيف أن هيئات التحكيم الجماعية تصدر أحكاما كان يمكن لكل عضو مكون لها أن يدينها فيما لو كان معزولا ، و نفهم كيف أن المجالس البرلمانية تتبنى قوانين كان ليرفضها كل عضو على حدة ، و إذا ما نظرنا الى أعضاء الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية وجدنا أنهم كانوا برجوازيين هادئين ذوي عادات مسالمة . و لكنهم عندما اندمجوا بالجمهور ( الثوار الفرنسيين ) أصبحوا هائجين متحمسين . و لم يترددوا تحت تأثير بعض المشاغبين في أن يرسلوا الى المقصلة الأشخاص الأكثر براءة كما حصل مع لافوازييه العالم الكيميائي الشهير الذي أعدم على يد الثورة الفرنسية بتهمة كاذبة و من دون محاكمة .
لنلخص كل الملاحظات السابقة قائلين بأن الجمهور هو دائما أدنى مرتبة من الانسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية . و لكن من وجهة نظر العواطف و الأعمال التي تثيرها هذه العواطف فمن الممكن ان تسير نحو الأفضل أو نحو الأسوء . و هذه هي النقطة التي جهلها الكتاب الذين لم يدرسوا الجماهير من وجهة النظر الجرائمية . صحيح أن الجماهير في الغالب تكون مجرمة ، ولكنها غالبا بطلة . فمن السهل اقتيادهم الى المذبحة و القتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية أو فكرة ما . و من السهل تحريكهم و بث الحماسة في مفاصلهم من أجل الدفاع عن المجد و الشرف و بالإمكان تجييشهم و اقتيادهم لخوض الحروب و المجازر كما حصل في الحروب الصليبية من أجل تخليص قبر المسيح من أيدي المسلمين أو كما حصل في حروب نابليون بعد الثورة الفرنسية أو كما حصل في حروب هتلر في المانيا النازية، صحيح أنها بطولات لا واعية الى حد ما و لكن التاريخ لا يصنع إلا من قبل بطولات كهذه . و أن التاريخ لا يذكر صناع السلام و الأعمال التي أنجزت بكل برودة أعصاب و عقلانية هادئة و إنما يذكر الحروب الضارية التي ذهب ضحيتها الملايين .
No comments:
Post a Comment