Friday, 25 October 2019

علم النفس الاجتماعي الجزء 3

بعد ان تحدثنا بشكل عام جدا عن الخصائص الأساسية للجماهير ، سوف نتحدث الان عنها بالتفصيل مثل سرعة الانفعال و النزق و العجز عن المحاكمة العقلية و انعدام الرأي الشخصي و الروح النقدية و المبالغة في العواطف و المشاعر و غيرها .
سرعة انفعال الجماهير و خفتها و نزقها :
إن الجمهور يمثل لعبة واقعة تحت تأثير المحرضات الخارجية و بالتالي فهو عبد للتحريضات التي يتلقاها . و الفرد المعزول يمكنه أن يخضع لنفس المحرضات المثيرة كالانسان المنخرط في جمهور و لكن عقله يتدخل و يبين له مساوئ الانصياع لها و بالتالي لا ينصاع فيمكننا القول أن الفرد يمتلك الأهلية و الكفاءة للسيطرة على ردود أفعاله هذا في حين أن الجمهور لا يمتلكها . إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة بطولية أو جبانة بحسب نوعية هذه المحرضات . ولكنها تبقى دائما قوية و مهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها (بمعنى أنها مستعدة للموت من أجلها) .
كما أن لاشئ متعمد أو مدروس لدى الجماهير فهي تستطيع أن تعيش جميع أنواع العواطف و تنتقل من النقيض الى النقيض بسرعة البرق و ذلك تحت تأثير المحرض السائد في اللحظة التي تعيشها فيمكن للجمهور بسهولة أن يكون جلادا و بنفس السهولة يمكنه أن يكون ضحية أو شهيدا فمن أعماقه سالت جداول الدم الغزيرة الضرورية لانتصار أي عقيدة أو إيمان و الدليل على ذلك أن جنرالا في الجيش الفرنسي أصبح شعبيا فيما بعد و استطاع أن يسوق معه مئة ألف شخص مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل قضيته (نابليون بونابرت) .
و لكن الجمهور ليس انفعاليا و متقلبا فقط . وإنما هو كالانسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته و بين تحقيق هذه الرغبة . نقول ذلك خصوصا أن عدده الكبير يشعر بامتلاك قوة لا تقاوم . فمفهوم المستحيل لا معنى له بالنسبة للفرد المنخرط في الجمهور . فالإنسان المعزول يعرف جيدا أنه لا يستطيع أن يحرق قصرا أو أن ينهب مخزنا ، و لكنه ما إن ينخرك في الجمهور حتى يحس بالقوة الناتجة عن العدد والكثرة ، و في أية فرصة تسنح له للقتل أو النهب فإنه ينصاع فورا و لا يتردد في اقتراف ذلك . و كل عقبة تقف في طريقه يكسرها بجنون مسعور .

Wednesday, 23 October 2019

علم النفس الاجتماعي الجزء 2

ان الفرد المنضوي منذ بعض الوقت في وسط جمهور هائج سرعان ما يسقط في حالة خاصة تشبه كثيرا حالة الانجذاب الشديد الذي يشعر به المنوم مغناطيسيا تجاه منومه ، و بما أن حياة الدماغ تصبح مشلولة لدى الانسان المنوم مغناطيسيا ، فإنه يصبح عبدا لكل فعالياته اللاواعية ، و يصبح منومه قادرا على توجيهه حيث يشاء و هكذا تصبح الشخصية الواعية مغميا عليها ، و تصبح ارادة التمييز و الفهم ملغاة ، إن هذا الذي يحصل عند المنوم مغناطيسيا هو نفسه الذي يحصل للفرد المنخرط في جمهور ، فهذا الفرد لايعود واعيا بأعماله و يخضع لتأثير و إيحاء الجمهور ، فتكون حالته أشبه بحالة المنوم مغناطيسيا بمعنى أن بعض ملكاته تصبح مدمرة ، في حين أن بعضها تصبح مستنفرة إلى أقصى حد ، فينجرف مع آراء الجماعة و لا يعود له رأيه الخاص و هكذا لا يعود هو الفرد نفسه ، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي تسيره أفكار الجماعة حيث شاءت . فالفرد عندما يكون معزولا ربما يكون انسانا مثقفا متعقلا و لكنه ما إن ينضم الى جماعة معينة حتى يصبح مسيرا من قبل تلك الجماعة . على هذا النحو يمكننا أن نفهم كيف أن هيئات التحكيم الجماعية تصدر أحكاما كان يمكن لكل عضو مكون لها أن يدينها فيما لو كان معزولا ، و نفهم كيف أن المجالس البرلمانية تتبنى قوانين كان ليرفضها كل عضو على حدة ، و إذا ما نظرنا الى أعضاء الجمعية التأسيسية بعد الثورة الفرنسية وجدنا أنهم كانوا برجوازيين هادئين ذوي عادات مسالمة . و لكنهم عندما اندمجوا بالجمهور ( الثوار الفرنسيين ) أصبحوا هائجين متحمسين . و لم يترددوا تحت تأثير بعض المشاغبين في أن يرسلوا الى المقصلة الأشخاص الأكثر براءة كما حصل مع لافوازييه العالم الكيميائي الشهير الذي أعدم على يد الثورة الفرنسية بتهمة كاذبة و من دون محاكمة . 
لنلخص كل الملاحظات السابقة قائلين بأن الجمهور هو دائما أدنى مرتبة من الانسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية . و لكن من وجهة نظر العواطف و الأعمال التي تثيرها هذه العواطف فمن الممكن ان تسير نحو الأفضل أو نحو الأسوء . و هذه هي النقطة التي جهلها الكتاب الذين لم يدرسوا الجماهير من وجهة النظر الجرائمية . صحيح أن الجماهير في الغالب تكون مجرمة ، ولكنها غالبا بطلة . فمن السهل اقتيادهم الى المذبحة و القتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية أو فكرة ما . و من السهل تحريكهم و بث الحماسة في مفاصلهم من أجل الدفاع عن المجد و الشرف و بالإمكان تجييشهم و اقتيادهم لخوض الحروب و المجازر كما حصل في الحروب الصليبية من أجل تخليص قبر المسيح من أيدي المسلمين أو كما حصل في حروب نابليون بعد الثورة الفرنسية أو كما حصل في حروب هتلر في المانيا النازية، صحيح أنها بطولات لا واعية الى حد ما و لكن التاريخ لا يصنع إلا من قبل بطولات كهذه . و أن التاريخ لا يذكر صناع السلام و الأعمال التي أنجزت بكل برودة أعصاب و عقلانية هادئة و إنما يذكر الحروب الضارية التي ذهب ضحيتها الملايين .

علم النفس الاجتماعي الجزء 1

من المعروف أن علم النفس يهتم عادة بدراسة النفسية الفردية و مشاكلها في فترة الطفولة و المراهقة خاصة ، فعلم التحليل النفسي الذي أسسه سيغموند فرويد (1939-1856) قائم على استبطان الذات الفردية لا الجماعية اي أنه يدرس نفسية الافراد لا نفسية الجماهير ، حيث أن الذي يدرس نفسية الجماهير هو علم النفس الاجتماعي . إن مؤسس هذا العلم هو العالم الفرنسي جوستاف لوبون (1931-1841) حيث نشر كتابه الشهير (سايكلوجيا الجماهير ) (psychology of crowds) عام 1895 درس فيه سلوك الجماعات في المجتمع و ليس الأفراد . نقصد بالجماهير (الجماعات) الفئات الاجتماعية أو الطبقات أو الأقليات أو الطوائف الدينية . و الحقيقة أن هنالك تكاملا بين العلمين علم النفس الفردي و علم النفس الاجتماعي لا تناقضا ، إذ من المستحيل عزل السلوك الفردي عن الوسط الجماعي ، كما أن من غير الدقيق أن نحرم الذات الفردية من نوايها الخاصة و مشاعرها الذاتية فكلا الجانبين في  حالة تصادم و تنافر .
وهنا سنعرض لبعض آراء جوستاف لوبون في كتابه سايكلوجيا الجماهير .
الخصائص العامة للجماهير : 
إن كلمة جمهور تعني في معناها العادي تجمعا لمجموعة لا على التعيين من الافراد ، أيا تكن هويتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم ، و أيا تكن المصادفة التي جمعتهم .
و لكن مصطلح الجمهور يتخذ معنى آخر مختلفا تماما من وجهة النظر النفسية . فعندما يكون يكون الفرد ضمن حشد من الناس فعندئذ تنطمس الشخصية الواعية للفرد ، وتصبح عواطف و أفكار الافراد المشكلة للجمهور موجهة باتجاه واحد فتتشكل روح جماعية تمتتع بخصائص معينة . و أطلق جوستاف لوبون على هذا التجمع من الناس بالجمهور المنظم .
و لا بد من الاشارة الى أن تجمع عدد من الناس عن طريق المصادفة لا يخلع عليهم صفة الجمهور المنظم ، فألف فرد مجتمعون بالمصادفة في ساحة عامة بدون أي هدف معين لا يشكلون اطلاقا جمهورا نفسيا ، و إنما يجب أن يكون هناك هدف معين من تجمعهم .
إن ذوبان الشخصية الواعية للافراد و توجيه المشاعر و الافكار في اتجاه واحد يشكل الخصيصة الاولى للجمهور ، كما أنه ليس من الضرورة الحضور المتزامن لعديد من الأفراد قي نقطة واحدة ليشكلوا جمهورا ، ذلك أنه يمكن لالاف من الافراد المنفصلين عن بعضهم البعض أن يشكلوا جمهورا تحت تأثير انفعالات معينة كحدث قومي أو وطني أو ديني . 
إن أهم ميزة كما قلنا للجماهير أن الافراد المنضوون تحتها تذوب شخصيتهم الواعية و يصبحون يفكرون بعقل الجماعة أي أنهم يتعرضون لأشبه ما يكون بالتنويم المغناطيسي الذي يمكن أن نسميه بالتنويم الاجتماعي ، فنرى أن فردا معينا قد يكون مسالما هادئا عندما يكون منعزلا أي غير منضوي تحت جمهور معين و لكنه ما إن يصبح ضمن جمهور معين كالثوار أو الجيش مثلا نراه يرتكب أبشع الجرائم ، و الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي أن أيا ما تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه و أيا ما تكن ما يكن نمط حياتهم متشابها أو مختلفا و كذلك اهتمامهم و مزاجهم أو ذكائهم ، فإن مجرد تحولهم الى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية ، وهذه الروح تجعلهم يفكرون و يتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التى سيفكر و يتحرك بها كل فرد فيما لو كان معزولا . أي انهم يشبهون خلايا الجسد الحي التي تشكل كائنا جديدا يتحلى بخصائص جديدة مختلفة كليا عن الخصائص التي تمتلكها كل خلية فيما لو كانت منفردة . كما أن الفروقات بين الافراد عندما يكونون منتمين لنفس الجمهور تكاد تختفي و تنعدم ، فمثلا يمكن أن توجد فجوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير و صانع الأحذية على المستوى الفكري و لكن عندما ينتميان الى نفس الجمهور فأن هذه الفروقات تصبح ضعيفة جدا أو تكاد تنعدم . هذا هو السبب الذي يجعل الجماهير لا تستطيع انجاز الاعمال التي تتطلب ذكاءا عاليا ، فالقرارات المتخذة من قبل جمعية متميزة من البشر في موضوع معين ليست متفوقة كثيرا على القرارات التي يتخذها مجموعة من البلهاء . فالفرد مهما يكن متميزا بذكاء عالي فهو عندما ينتمي لتجمع معين من الناس يتلاشى ذكائه و يختفي و من هنا أهمية العزلة .