Wednesday, 27 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 24

مما يساعد كثيرا على قوة تأثير الأفكار التي بثت في الجماعات بواسطة التوكيد و التكرار و العدوى كونها تنتهي بإكتساب قوة خفية تسمى النفوذ .
للنفوذ قوة لا تقف أمامها قوة أخرى ، و كل سلطة سادت في الوجود سواء كانت سلطة لأفكار أو رجال ، فهو السبب في قيامها و سيادتها . و النفوذ كلمة يعرف الجميع معناها و لكنها تستعمل استعمالات كثيرة ، و لذلك لم يكن من السهل تعريفها .
و قد يجتمع النفوذ مع بعض المشاعر كالإعجاب أو الرهبة ، و ربما كان الإثنان أصلا له في أحوال كثيرة ، إلا أنه قد يوجد بدونهما مثل نفوذ الذين ماتوا ، فإنه لا محل للخوف منهم ، و دليل ذلك أن أكثر من نشعر بنفوذه فينا هم الذين ارتحلوا عن الدنيا و لم نعد نخاف منهم مثل الإسكندر و قيصر و محمد و بوذا . كذلك لبعض الكائنات أو البدع تأثير في النفوس ، و إن كان مما لا يعجب به كالألهة المنغوليين الذين يوجدون في معابد الهند تحت سطح الأرض .
يمكن أن النفوذ عبارة عن سلطة رجل أو عمل أو فكر يستولي بها على العقول ، و تلك السلطة تعطل ملكة النقد فتملأ النفس اندهاشا و احتراما ، و لا يمكن تفسير الشعور الذي يحدث منه كما هو الشأن في كل شعور ، إلا أنه لا بد أن يكون من جنس الاجتذاب الذي يحدث في نفس الشخص النائم نوما مغناطيسيا . و النفوذ أعظم مقوم لكل سيادة في العالم .
ثم أن النفوذ أنواع يمكن حصرها في قسمين : النفوذ المكتسب و النفوذ الشخصي ، فالأول هو الذي يرجع لاسم صاحبه أو ثروته أو شهرته ، و قد يكون منفصلا عن النفوذ الشخصي ، و أما النفوذ الشخصي فهو أمر ذاتي قد يجتمع مع الشهرة و المجد و الثروة و يشتد بانضمامها اليه ، و قد يكون وحده . 
و أكثر النوعين شيوعا هو النفوذ المكتسب أو العرضي ، فهو يثبت للرجل بمجرد كونه مركزا أو يملك ثروة أو يتحلى ببعض الألقاب ، و إن لم يكن له قيمة من نفسه : فللجندي في لباسه و للقاضي في زيه الرسمي نفوذ ما ارتديا لباسهما ، و لذلك أمر باسكال بضرورة الجبة و الشعر للقضاة و لولا الجبة و الشعر لفقدوا ثلاثة أرباع نفوذهم .
و النفوذ الذي أشرنا اليه خاص بالانسان ، و بجانبه يوجد النفوذ الذي يكون للافكار أو الأدبيات أو الفنيات و غير ذلك و هو في الغالب ناشئ من التكرار ، و ما التاريخ و بالأخص تاريخ الآداب و الفنون إلا تكرار رأي سبق و لم يعارضه أحد ، فيؤول الأمر إلى أن كل واحد يكرر ما قرأ في المدرسة ، و هنالك من الأشياء و الأسماء مما لا يجرؤ أحد على الحديث فيها ، فمما لا شبهة فيه أن مطالعة الإلياذة و الأوديسة للشاعر اليوناني هوميروس تورث قراء هذا الزمان مللا شديدا إلا أنه لا يجرؤ أحد القول به ، و البارتينون أصبح اليوم خرابة تراكمت فيها الأنقاض و لا فائدة منها إلا أن نفوذه لا يزال قويا ، حتى أنهم لا يبصرونه كما هو الآن ، بل كما كان في القدم محفوفا بأبهته و فخامته ، فمن خواص النفوذ أن لا يجعل الإنسان يرى الشئ على حقيقته و أن يعطل فيه ملكة النقد و التمييز .

No comments:

Post a Comment