كنا قد تحدثنا عن ما للنفوذ من تأثير في الجماعات سواء كان ذلك النفوذ لرجال أو أفكار أو آلهة . في الحقيقة تحتاج الجماعات دائما و الافراد غالبا الى آراء حاضرة في جميع المباحث ، و انتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ ، بل مرجعه ما لها من النفوذ .
ننتقل الآن الى النفوذ الشخصي و هو يختلف مع النفوذ المكتسب ، لأنه صفة تنفرد عن كل لقب و كل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم و يجذبونها إليهم كالمغناطيس ، و إن ساووهم منزلة بين أمتهم ، و لم يكن لهم شئ من وسائل التسلط و الغلبة و يبثون فيهم أفكارهم و ينقلون إليهم مشاعرهم ، و أولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مروّضه و إن كان في استطاعته افتراسه بسهولة لو أراد .
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قادة الجماعات مثل بوذا و عيسى و محمد و جان دارك و نابليون ، و هو السبب في تمكنهم ، فإنما تتسلط الآلهة و الأبطال و المذاهب تسلطا لا دخول للمناظرة فيه ، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه .
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم ، و تلك القوة هي السبب في شهرتهم ، فلما بلغ نابليون مثلا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منَعَته و سلطانه ، إلا أنه كان له شئ منه يوم لم يكن له من السلطة و لم يكن معروفا عند أحد ، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال) ، و كان لا يزال مجهولا عهد اليه من كان مستضعفا له بقيادة الجيش الفرنسي المحارب في بلاد ايطاليا ، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء ، و كانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلا بينهم ، و لكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول تلقائه بهم بلا كلام و لا إشارة و لا وعيد ، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء .
لا يقوم النفوذ بالتأثير الشخصي و الفخار العسكري ، و الرهبة الدينية دون سواها ، بل يجوز أن يتسبب عن أمر أصغر منها بكثير ، و يكون مع ذلك شديدا .
إن الناس يقلدون ذا النفوذ عمدا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانا أو رأيا أو شيئا آخر . و يتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها و يترجمون عما به يشعرون و يكون التقليد في الغالب فطريا ، لذلك يبلغ حد الكمال و الاتقان .
إن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح ، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس و بطلت معارضتهم له ، و كذلك الفكر إذا تمكن من العقول ، و الدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك ، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر و يسخرون منه في الصباح إذا قلب له الزمان ظهر المجن . و بقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة ، فترا الجماعة من أندادها ، فتميل الى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشئ منه . هكذا كان نفوذ روبسبير ( أحد قادة الثورة الفرنسية ) شديدا يوم كان يقطع رؤوس زملائه و رؤوس الكثير من معاصريه ، فلما ضاعت منه الاصوات وقت الانتخاب و سقط من مركزه فارقه ذلك النفوذ لساعته و شيّعته الجماعة الى المشنقة و هي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه . و من عبد الآلهة و زاغ عنها كاد يقتله الغضب و هو يحطم الأصنام .
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة ، و قد يذهب النفوذ بالبحث فيه ، لكن ذلك لا يتم بالتدريج ، و هذه الوسيلة هي أضمن وسيلة لإضاعته ، و ما من انسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه ، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها .
No comments:
Post a Comment