سنتحدث عن ما للجماعات من الأفكار غير الثابتة . يوجد فوق سطح العقائد الثابتة التي شرحنا تأثيرها العظيم طبقة من الأفكار و الآراء التي تتجدد و تزول دائما ، فمنها ما يدوم يوما واحدا ، و أهمها لا يدوم أكثر من الجيل الذي نشأ فيه . أن التغيير الذي يطرأ على هذه الأفكار صوري أكثر مما هو حقيقي في الغالب ، و أنها مصبوغة على الدوام بصبغة الشعب الذي توجد فيه . و في الحقيقة أن وضع الأسماء للأفكار و إلباس الشئ ثوبا يريه غير صورته الحقيقية لا يغير من حقيقة ذلك الشيء .
و الحقيقة أن مثل هذه التقلبات ليست إلا صورية غير حقيقية ، و أن مثل هذه التقلبات ليست في مجال العادات و التقاليد و السياسة فقط بل حتى في الأفكار و في الأدب و الفنون و الفلسفة ، كان الناس يتغنون باسم هذا الكاتب أو ذلك المصور في المساء ، فإذا أصبح الصباح حقروه و رذلوه .
و إذا دققنا البحث في هذه التقلبات التي يخال أنها حقيقية متأصلة في النفس رأينا أن ما كان منها مخالفا للاعتقادات العامة و مشاعر الشعب ، فهو زائل لا يدوم إلا يسيرا ، و لا تلبث المياه أن تعود الى مجاريها ، فمن المعلوم أنه يستحيل دوام الأفكار التي لا رابطة بينها هي و المعتقدات العامة و مشاعر الشعب ، لأنها معرضة لتأثير الطوارئ و الاتفاق تتغير بأقل تغيير في البيئة التي وجدت فيها . و مما يدل أيضا على عدم بقائها أنها تولدت من طريق الإلقاء و العدوى ، فهي تولد ثم تموت بسرع الرمل الذي يتكون أكداسا على شاطئ البحر ثم تذهب به الريح ثم تعيده ... و هكذا .
و لقد كثرت في أيامنا هذه أفكار الجماعات التي لا بقاء لها ، و لذلك ثلاثة أسباب :
الأول : أن الاعتقادات القديمة أخذت تضعف شيئا فشيئا ، فلم تعد تؤثر في الأفكار العرضية تأثيرا ينظمها و يهديها ، و ضعف تلك الاعتقادات العامة من شأنه أن يفسح المجال لتولد أفكار خاصة لا رابطة بينها و الماضي ، و لا يرجى بقائها في المستقبل .
السبب الثاني : أم قوة الجماعات تزداد شيئا فشيئا ، و القوة المضادة تضعف بمقدار ذلك ، و قد عرفنا أن الجماعات كثيرة التقلب في أفكارها ، فالنتيجة أنها صارت أكثر حرية في إظهار تلك الأفكار المتقلبة .
السبب الثالث : هو كثرة انتشار المطبوعات لما فيها من كثرة الأفكار المتناقضة التي تعرضها على الجماعات . فالفكرة لا تكاد تظهر حتى تبطل بظهور فكرة تخالفها ، و ما من فكر ينتشر تماما و كلها محكوم عليها بسرعة الزوال ، فهي تموت قبل أن تنتشر انتشارا يثبتها و يجعلها معتقدا عاما .
من تلك الأسباب تولدت ظاهرة جديدة في تاريخ البشر ينفرد بها العصر الحاضر ، و هي ضعف الحكومات عن قيادة الرأي العام .
كان زمام الرأي في الزمن السابق ما هو في يد الحكومات و بعض ذوي النفوذ من الكتاب ، و عدد مخصوص من الجرائد : فأما الكتاب فقد انعدم تأثيرهم ، و أما الجرائد فإن وظيفتها أصبحت قاصرة عن أن تكون مرآة للرأي ، و أما السياسيون فإنهم لا يديرونه بل يسيرون خلفه ، و قد أخذتهم منه رهبة تكاد أحيانا تبلغ حد الذعر و الانذهال ، فهم لا يثبتون في أي طريق يسلكون .
No comments:
Post a Comment