Thursday, 11 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 29

أقسام الجماعات : 
بعد أن بينا الصفات العامة للجماعات النفسية ينبغي أن نبين الصفات الخاصة التي تنفرد بها المجاميع عن بعضها إذا صارت جماعات بتأثير الأسباب المؤدية الى ذلك . 
و لنبدأ بقول موجز في تقسيم الجماعات . 
فأولها الجمع مطلقا و أدنى مراتبه ما كان مؤلفا من أفراد ليسوا من شعب واحد و لا رابطة بينهم إلا إرادة رئيسهم بقدر ماله من المنزلة فيهم . و يمكن التمثيل لهذه المجاميع بالمتبربرين مختلفي الأصول الذين أغاروا على الأمبراطورية الرومانية مدة قرون عدة . و يليها الجموع التي احتفتها أحوال و عوامل ولدت فيها صفات عامة و انتهت بأن صارت شعبا واحدا ، و لهذه الجموع في بعض الأحيان الصفات الخاصة بالجماعات ، إلا أن هذه الصفات الخاصة تكون دائما متأثرة بصفات الشعب العامة . 
فإذا اجتمعت في هذه المجاميع بقسميها العوامل التي ذكرناها صارت جماعات منظمة أو نفسية ، و هذه الجماعات تنقسم إلى الأقسام التالية : 
أولا : الجماعات مختلفة العناصر و فيها : 
1- الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الطريق العام 
2- الجماعات التي لها اسم خاص كالعدول المحلفين و المجالس النيابية و هكذا .
ثانيا : الجماعات المؤتلفة العناصر و فيها : 
1- الأفناء كالجموع السياسية و الدينية و العسكرية 
2-الطوائف كالجموع العسكرية و رؤساء الدين و العمال و هكذا 
3-الطبقات كجموع الأواسط و جموع أهل الريف و هكذا .
و إليك قولا موجزا في بيان مميزات كل نوع من هذه الأنواع : 
القسم الأول : الجماعات مختلفة العناصر : هذه الجموع تتألف من أفراد أيا كانوا و كيفما كانت حرفتهم و عقولهم . و نحن الآن نعرف أنه متى اجتمع قوم و كونوا جماعة عاملة اختلفت أحوالهم النفسية و الاجتماعية مع أحوالهم النفسية الفردية اختلافا عظيما ، و أن العقل لا يمنع من هذا الاختلاف لأنه لا تأثير  له في الجماعات ، و أن الذي يؤثر في الجماعات هو المشاعر الغريزية . 
و من العوامل الأصلية ما يسهل معه تمييز الجماعات المختلفة العناصر تمييزا تاما و هو الشعب ، و قد ذكرناه مرارا و قلنا أنه أعظم المؤثرات التي تنبعث عنها أفعال الناس . و إن له له تأثيرا في صفات الجماعات . 
و عليه تحكم روح الشعب دائما روح الجماعة ، فهي لها كالدائرة المنيعة التي تنظم تقلباتها و تحدد حركاتها ، و من هنا ينبغي أن نقرر القاعدة الآتية : تكون الصفات المنحطة في الجماعة ضعيفة بقدر ما تكون روح الشعب قوية ، فحالة الجماعة هي الهمجية و تسلطها رجوع للعمجية ، و لا يخرج الشعب من الهمجية و يتخلص من سلطة الجماعات التي لا يحكمها العقل إلا إذا كانت له روح قوية شديدة ، و ذلك يتأنى بالتدريج .
و يلي الجماعات المتقدمة الذكر الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الشوارع ، ثم الجماعات التي لها اسم ، تعرف به، كجماعات العدول و المجالس النيابية ، و الذي يوجب اختلاف هذين النوعين غالباةفي انفعالهمة هو أن الاولى لا تشعر بتبعة ما نتح عن أعمالها بخلاف الثانية ، فإنها تقدر تبعة عملها كما ينبغي . 
القسم الثاني : الجماعات المؤتلفة العناصر 
تفترق الجماعات المؤتلفة العناصر إلى أفناء و طوائف ، فالأفماء أول المراتب ، و هي تتألف من أفراد مختلفين في التربية و الحرفة و البيئة أحيانا و لا جامعة تجمعهم إلا وحدة الاعتقاد ، و من هذا النوع الأفناء السياسية و الأفناء الدينية .
و الطوائف أرقاها ، و هي تتألف من أفراد متحدين في الحرفة ، فهم متشابهون في التربية و البيئة كجماعة الجند و جماعة الروساء الروحانيين .
و الطبقات هي التي أفرادها من مناشئ مختلفة اجتمعوا لا بجامعة الاعتقاد كالأفناء و لا بجامعة وحدة الحرف كالطوائف ، بل بجامعة المنافع و الشبه في حالة المعيشة و التربية كطبقة الأواسط في الأمة و طبقة الزراع ... و هكذا .

Wednesday, 10 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 28

سنتحدث عن ما للجماعات من الأفكار غير الثابتة . يوجد فوق سطح العقائد الثابتة التي شرحنا تأثيرها العظيم طبقة من الأفكار و الآراء التي تتجدد و تزول دائما ، فمنها ما يدوم يوما واحدا ، و أهمها لا يدوم أكثر من الجيل الذي نشأ فيه . أن التغيير الذي يطرأ على هذه الأفكار صوري أكثر مما هو حقيقي في الغالب ، و أنها مصبوغة على الدوام بصبغة الشعب الذي توجد فيه . و في الحقيقة أن وضع الأسماء للأفكار و إلباس الشئ ثوبا يريه غير صورته الحقيقية لا يغير من حقيقة ذلك الشيء . 
و الحقيقة أن مثل هذه التقلبات ليست إلا صورية غير حقيقية ، و أن مثل هذه التقلبات ليست في مجال العادات و التقاليد و السياسة فقط بل حتى في الأفكار و في الأدب و الفنون و الفلسفة ، كان الناس يتغنون باسم هذا الكاتب أو ذلك المصور في المساء ، فإذا أصبح الصباح حقروه و رذلوه . 
و إذا دققنا البحث في هذه التقلبات التي يخال أنها حقيقية متأصلة في النفس رأينا أن ما كان منها مخالفا للاعتقادات العامة و مشاعر الشعب ، فهو زائل لا يدوم إلا يسيرا ، و لا تلبث المياه أن تعود الى مجاريها ، فمن المعلوم أنه يستحيل دوام الأفكار التي لا رابطة بينها هي و المعتقدات العامة و مشاعر الشعب ، لأنها معرضة لتأثير الطوارئ و الاتفاق تتغير بأقل تغيير في البيئة التي وجدت فيها . و مما يدل أيضا على عدم بقائها أنها تولدت من طريق الإلقاء و العدوى ، فهي تولد ثم تموت بسرع  الرمل الذي يتكون أكداسا على شاطئ البحر ثم تذهب به الريح ثم تعيده ... و هكذا .
و لقد كثرت في أيامنا هذه أفكار الجماعات التي لا بقاء لها ، و لذلك ثلاثة أسباب : 
الأول : أن الاعتقادات القديمة أخذت تضعف شيئا فشيئا ، فلم تعد تؤثر في الأفكار العرضية تأثيرا ينظمها و يهديها ، و ضعف تلك الاعتقادات العامة من شأنه أن يفسح المجال لتولد أفكار خاصة لا رابطة بينها و الماضي ، و لا يرجى بقائها في المستقبل .
السبب الثاني : أم قوة الجماعات تزداد شيئا فشيئا ، و القوة المضادة تضعف بمقدار ذلك ، و قد عرفنا أن الجماعات كثيرة التقلب في أفكارها ، فالنتيجة أنها صارت أكثر حرية في إظهار تلك الأفكار المتقلبة .
السبب الثالث : هو كثرة انتشار المطبوعات لما فيها من كثرة الأفكار المتناقضة التي تعرضها على الجماعات . فالفكرة لا تكاد تظهر حتى تبطل بظهور فكرة تخالفها ، و ما من فكر ينتشر تماما و كلها محكوم عليها بسرعة الزوال ، فهي تموت قبل أن تنتشر انتشارا يثبتها و يجعلها معتقدا عاما . 
من تلك الأسباب تولدت ظاهرة جديدة في تاريخ البشر ينفرد بها العصر الحاضر ، و هي ضعف الحكومات عن قيادة الرأي العام . 
كان زمام الرأي في الزمن السابق ما هو في يد الحكومات و بعض ذوي النفوذ من الكتاب ، و عدد مخصوص من الجرائد : فأما الكتاب فقد انعدم تأثيرهم ، و أما الجرائد فإن وظيفتها أصبحت قاصرة عن أن تكون مرآة للرأي ، و أما السياسيون فإنهم لا يديرونه بل يسيرون خلفه ، و قد أخذتهم منه رهبة تكاد أحيانا تبلغ حد الذعر و الانذهال ، فهم لا يثبتون في أي طريق يسلكون . 


Tuesday, 9 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 27

أدركت الأمم على الدوام فائدة المعتقدات العامة ، و فطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها . عبد الرومان مدينة روما عبادة المتعصبين ، فسادوا على الدنيا أجمع ، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما ، و استمر المتبربرون الذين خربوا ملكها على همجيتهم حتى إذا رسخت بينهم بعض المعتقدات العامة وجد فيهم شئ من الامتزاج و التآلف و خرجوا من الفوضى . 
و عليه تعذر الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها ، إذ الحقيقة أن هذا التعصب هو أرقى الفضائل في حياة الأمم و إن كان مذموما من الجهة الفلسفية .
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوف من الناس إلا للدفاع عن معتقد موجود أو لإدخال معتقد عام جديد في النفوس . و ما مات الكثير من المخترعين و المبتدعين و الأسى ملئ قلوبهم إلا لأنهم لم ينالوا قسطا من العذاب لأجل تلك المعتقدات ، و ما اضطربت الدنيا مرة بعد مرة إلا للدفاع عنها ، و ماتت الملايين في سوح الوغى إلا بسببها ، و كذلك يكون في مستقبل الأيام . 
من الصعب غرس معتقد جديد ، لكنه بعد أن يتمكن من النفس يدوم شديد التأثير زمنا طويلا ، و كيفما كان خطأً من الجهة الفلسفية ، فإنه يتسلط على أكبر ذوي الألباب ، بدليل أن الأمم الأوروبية دانت للأقاصيص و اعتقدتها حقائق لا شك فيها خمسة عشر قرنا و المتأمل في تلك القصص يراها أحق بالقوم الهمج . و مع ذلك فلم يستطع عباقرة كمثل غاليلو غاليلي ( عالم فيزياء إيطالي ) و نيوتن (عالم فيزياء إنكليزي ) و لايبنيتز ( عالم فيزياء فرنسي ) أن يناقشوا حقيقية هذه الأفكار و الأقاصيص ، ذلك مما يبرهن على قوة استيلاء المعتقدات العامة و سحرها في النفوس ، و لكنه يبرهن أيضا على أن العقل محدود بحدود مخجلة . 
و متى ما تمكنت عقيدة جديدة من نفوس الجماعات أصبحت مصدر نظاماتها و مرجع فنونها و قاعدة سيرها . هنالك يستحكم سلطانها و تتم غلبتها ، فترة أهل العزائم لا يفكرون إلا في تحقيقها ، و واضعي القوانين إلا الأخذ بها ، و الفلاسفة و أرباب الفنون و الكتاب إلا في تمثيلها على صور شتى .
و قد يتولد عن العقيدة العامة أفكار وقتية ثانوية ، إلا أنها تكون على الدوام مصبوغة بصبغتها ، فقد تولدت حضارة المصريين و حضارة الأوروبيين و حضارة المسلمين في القرون الوسطى من عقائد دينية قليلة العدد ، طبعت كل عقيدة منها خاتمها على كل جزئية من جزئيات حضارتها و سهلت بذلك معرفتها .
من هذا يتبين أن الفضل للعقائد العامة في إحاطة أهل كل عصر بتقاليد و أفكار و عادات تقيدوا بها و صاروا متشابهين ، و الذي يهدي الناس في سيرهم إنما هي الأفكار و العادات المتولدة عن تلك العقائد ، فهي الحاكمة على أعمالنا جليلها و صغيرها ، و كيفما سمت مداركنا فإنا لا نفكر في الخلاص منها ، إذ الاستبداد الحقيقي هو الذي يدخل على النفوس من طريق الغرائز ، لأنه هو الذي لا يتمكن المء من محاربته ، فلقد كان ( تيبير ) و ( جنكيزخان ) و (نابليون) جبارين مستبدين ، و لكن استئثار موسى و بوذا و عيسى و محمد و لوثر و هم في القبور أشد و أبقى . 
ما كان بطلان العقائد العامة من حيث النظر و الفلسفة مانعا من استظهارها ، و قد يظهر أن فوزها مشروط بإحتوائها على شئ من الهزء الخفي . و إذا كانت مذاهب الاشتراكيين في العصر الحاضر واضحة الضعف ، فليس ضعفها هذا هو سبب عدم استيلائها على نفوس الجماعات ، و انما السبب في انحطاطها عن جميع العقائد الدينية راجع إلى أن السعادة التي وعدت بها الديانات لا اخقق إلا في الديار الباقية فلم يكن أحد يماري في تحقيقها . و أما السعادة التي وعد بها مذهب الاشتراكيين ، فإنها يجب أن تتحقق في الحياة الدنيا ، و متى شرع في ذلك بان أن الوعد خلب و سقط بذلك نفوذ العقيدة الجديدة ، و عليه فلا يعظم سلطان هذه العقيدة إن تم لها الظفر إلا إلى اليوم الذي يبدأ فيه بتحقيقها ، و ذلك هو السبب في أن هذا الدين الجديد له من قوة التخريب ما كان لغيره من الأديان التي سبقته ، و لكنه لن يكون له ما كان لها من قوة النبأ .

Monday, 8 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 26

حدود تقلب معتقدات الجماعات و أفكارها : 
نبدأ في المعتقدات الثابتة . يوجد بين الخواص التشريحية أي الجسمانية و الخواص النفسية تشابه تام ، فمن الأولى ما هو ثابت أو لا يتغير إلا ببطئ شديد بحيث يلزم لتغييره زمن كالذي بيننا و بين الطوفان ، و منها ما هو متقلب يتغير بالسهولة من أثر البيئة أو المربي ، و قد يبلغ التغيير درجة تختفي فيها الخواص الاصلية على غير المتأمل . 
و كذلك الحال في الخواص الأدبية ، فمن أخلاق الشعب ما هو ثابت لا يغيره كرور الأيام ، و منها ما هو متقلب يتغير . و من ينعم النظر في معتقدات الأمم و أفكارها يرى دائما في أخلاقها أصلا ثابتا ترسب فوقه أفكار متقلبة كما ترسب الرمال فوق الصخر . 
و عليه تنقسم معتقدات الجماعات الى قسمين : الأول المعتقدات الدائمة التي تعمر عدة قرون ، و اليها ترجع مدنية الأمة كلها كالأفكار المسيحية و أفكار الإصلاح ( البروتستانتي ) و الأفكار الديمقراطية و الاجتماعية في أيامنا . و القسم الثاني يشمل الأفكار الوقتية المتغيرة ، و هي مشتقة في الغالب من الأفكار العامة تظهر و تغيب في الجيل الواحد كالنظريات التي تسترشد بها الفنون و الأدب في أوقات معلومة ، و مذهب حرية الكتابة و مذهب الطبيعيين و الصوفيين و غيرها . و تلك الأفكار كلها سطحية سريعة التغير ، فمثلها كمثل الأمواج الصغيرة التي تظهر و تختفي من دون انقطاع على سطح بحيرة عميقة . 
المعتقدات الكبيرة العامة قليلة جدا ، و قيامها و سقوطها في كل أمة ذات تاريخ يمثلان أعظم دور في حياتها ، و لا قوام للمدنية بدونها . 
و من السهل جدا إيجاد فكر وقتي في عقول الجماعات ، لكن من الصعب جدا تقرير معتقد دائم في نفوسها ، كما أنه من الصعب جدا هدم اعتقاد تمكن منها ، و لا سبيل الى التغيير غالبا الا بالثورات العنيفة ، بل إن الثورة لا تؤدي إلى ذلك إلا إذا اضمحل قبلها أثر المعتقد في النفوس ، فهي تصلح لكسح تلك البقية التي لا تكون في حكم المهمل لولا أن سلطان العادة يمنع من الإقلاع عنها بالمرة ، فالثورة التي تقبل عبارة عن معتقد يدبر .
و من السهل تجديد اليوم الذي يندك فيه أحد المعتقدات الكبرى ، ذلك هو يوم يؤخذ الناس بالبحث في قيمة هذا الاعتقاد ، لأن كل اعتقاد عام يكاد يكون أمرا فرضيا ، فهو لا يحتمل البقاء إلا بشرط عدم البحث فيه .
غير أن النظامات التي أسست على إعتقاد عام تستمر حافظة لقوتها و لا تتحلل إلا ببطئ ، و إن تزعزع ذلك الاعتقاد ، فإذا تم له الهدم تساقط ما بني عليه .
و مما قضت به سنة الوجود حتى الآن أن كل أمة أصبحت متمكنة من تغيير معتقداتها لا بد لها عاجلا من تغيير جميع أركان حضارتها ، فهي تغير و تبدل فيها حتى تهتدي الى معتقد جديد عام ترضاه النفوس و تعيش في فوضى حتى تعثر عليه ، فالمعتقدات العامة هي دعائم الحضارة التي لا بد منها ، و هي التي ترسم للأفكار طريقها الذي تسير فيه ، و هي التي توحي بالإيمان و تفرض الواجبات .



Saturday, 30 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 25

كنا قد تحدثنا عن ما للنفوذ من تأثير في الجماعات سواء كان ذلك النفوذ لرجال أو أفكار أو آلهة . في الحقيقة تحتاج الجماعات دائما و الافراد غالبا الى آراء حاضرة في جميع المباحث ، و انتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ ، بل مرجعه ما لها من النفوذ . 
ننتقل الآن الى النفوذ الشخصي و هو يختلف مع النفوذ المكتسب ، لأنه صفة تنفرد عن كل لقب و كل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم و يجذبونها إليهم كالمغناطيس ، و إن ساووهم منزلة بين أمتهم ، و لم يكن لهم شئ من وسائل التسلط و الغلبة و يبثون فيهم أفكارهم و ينقلون إليهم مشاعرهم ، و أولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مروّضه و إن كان في استطاعته افتراسه بسهولة لو أراد .
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قادة الجماعات مثل بوذا و عيسى و محمد و جان دارك و نابليون ، و هو السبب في تمكنهم ، فإنما تتسلط الآلهة و الأبطال و المذاهب تسلطا لا دخول للمناظرة فيه ، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه . 
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم ، و تلك القوة هي السبب في شهرتهم ، فلما بلغ نابليون مثلا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منَعَته و سلطانه ، إلا أنه كان له شئ منه يوم لم يكن له من السلطة و لم يكن معروفا عند أحد ، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال) ، و كان لا يزال مجهولا عهد اليه من كان مستضعفا له بقيادة الجيش الفرنسي المحارب في بلاد ايطاليا ، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء ، و كانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلا بينهم ، و لكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول تلقائه بهم بلا كلام و لا إشارة و لا وعيد ، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء . 
لا يقوم النفوذ بالتأثير الشخصي و الفخار العسكري ، و الرهبة الدينية دون سواها ، بل يجوز أن يتسبب عن أمر أصغر منها بكثير ، و يكون مع ذلك شديدا .
إن الناس يقلدون ذا النفوذ عمدا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانا أو رأيا أو شيئا آخر . و يتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها و يترجمون عما به يشعرون و يكون التقليد في الغالب فطريا ، لذلك يبلغ حد الكمال و الاتقان . 
إن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح ، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس و بطلت معارضتهم له ، و كذلك الفكر إذا تمكن من العقول ، و الدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك ، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر و يسخرون منه في الصباح إذا قلب له الزمان ظهر المجن . و بقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة ، فترا الجماعة من أندادها ، فتميل الى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشئ منه . هكذا كان نفوذ روبسبير ( أحد قادة الثورة الفرنسية ) شديدا يوم كان يقطع رؤوس زملائه و رؤوس الكثير من معاصريه ، فلما ضاعت منه الاصوات وقت الانتخاب و سقط من مركزه فارقه ذلك النفوذ لساعته و شيّعته الجماعة الى المشنقة و هي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه . و من عبد الآلهة و زاغ عنها كاد يقتله الغضب و هو يحطم الأصنام . 
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة ، و قد يذهب النفوذ بالبحث فيه ، لكن ذلك لا يتم بالتدريج ، و هذه الوسيلة هي أضمن وسيلة لإضاعته ، و ما من انسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه ، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها . 

Wednesday, 27 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 24

مما يساعد كثيرا على قوة تأثير الأفكار التي بثت في الجماعات بواسطة التوكيد و التكرار و العدوى كونها تنتهي بإكتساب قوة خفية تسمى النفوذ .
للنفوذ قوة لا تقف أمامها قوة أخرى ، و كل سلطة سادت في الوجود سواء كانت سلطة لأفكار أو رجال ، فهو السبب في قيامها و سيادتها . و النفوذ كلمة يعرف الجميع معناها و لكنها تستعمل استعمالات كثيرة ، و لذلك لم يكن من السهل تعريفها .
و قد يجتمع النفوذ مع بعض المشاعر كالإعجاب أو الرهبة ، و ربما كان الإثنان أصلا له في أحوال كثيرة ، إلا أنه قد يوجد بدونهما مثل نفوذ الذين ماتوا ، فإنه لا محل للخوف منهم ، و دليل ذلك أن أكثر من نشعر بنفوذه فينا هم الذين ارتحلوا عن الدنيا و لم نعد نخاف منهم مثل الإسكندر و قيصر و محمد و بوذا . كذلك لبعض الكائنات أو البدع تأثير في النفوس ، و إن كان مما لا يعجب به كالألهة المنغوليين الذين يوجدون في معابد الهند تحت سطح الأرض .
يمكن أن النفوذ عبارة عن سلطة رجل أو عمل أو فكر يستولي بها على العقول ، و تلك السلطة تعطل ملكة النقد فتملأ النفس اندهاشا و احتراما ، و لا يمكن تفسير الشعور الذي يحدث منه كما هو الشأن في كل شعور ، إلا أنه لا بد أن يكون من جنس الاجتذاب الذي يحدث في نفس الشخص النائم نوما مغناطيسيا . و النفوذ أعظم مقوم لكل سيادة في العالم .
ثم أن النفوذ أنواع يمكن حصرها في قسمين : النفوذ المكتسب و النفوذ الشخصي ، فالأول هو الذي يرجع لاسم صاحبه أو ثروته أو شهرته ، و قد يكون منفصلا عن النفوذ الشخصي ، و أما النفوذ الشخصي فهو أمر ذاتي قد يجتمع مع الشهرة و المجد و الثروة و يشتد بانضمامها اليه ، و قد يكون وحده . 
و أكثر النوعين شيوعا هو النفوذ المكتسب أو العرضي ، فهو يثبت للرجل بمجرد كونه مركزا أو يملك ثروة أو يتحلى ببعض الألقاب ، و إن لم يكن له قيمة من نفسه : فللجندي في لباسه و للقاضي في زيه الرسمي نفوذ ما ارتديا لباسهما ، و لذلك أمر باسكال بضرورة الجبة و الشعر للقضاة و لولا الجبة و الشعر لفقدوا ثلاثة أرباع نفوذهم .
و النفوذ الذي أشرنا اليه خاص بالانسان ، و بجانبه يوجد النفوذ الذي يكون للافكار أو الأدبيات أو الفنيات و غير ذلك و هو في الغالب ناشئ من التكرار ، و ما التاريخ و بالأخص تاريخ الآداب و الفنون إلا تكرار رأي سبق و لم يعارضه أحد ، فيؤول الأمر إلى أن كل واحد يكرر ما قرأ في المدرسة ، و هنالك من الأشياء و الأسماء مما لا يجرؤ أحد على الحديث فيها ، فمما لا شبهة فيه أن مطالعة الإلياذة و الأوديسة للشاعر اليوناني هوميروس تورث قراء هذا الزمان مللا شديدا إلا أنه لا يجرؤ أحد القول به ، و البارتينون أصبح اليوم خرابة تراكمت فيها الأنقاض و لا فائدة منها إلا أن نفوذه لا يزال قويا ، حتى أنهم لا يبصرونه كما هو الآن ، بل كما كان في القدم محفوفا بأبهته و فخامته ، فمن خواص النفوذ أن لا يجعل الإنسان يرى الشئ على حقيقته و أن يعطل فيه ملكة النقد و التمييز .

Saturday, 23 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 23

قد بينا أنه متى ما كثر تكرار امر معين و أجمع عليه المكررون ، انتقل هذا الأمر بالعدوى . و لا يجب في العدوى وجود أفراد كثيرين في مكان واحد ، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها . 
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه الى التقليد ، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته ، و القليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس ، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان ، و لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها ، و إنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع ، و لذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم ألا نادرا لبعد البون بينهما و من هنا قل تأثير الأوربي في الشرقي ، لأن الخلف شديد بين الرجلين .
يتشابه أهل كل عصر في أمة بتأثير الزمن و تبادل التقليد ، حتى الذين يخيل أنهم متفاوتون ، كالحكماء و العلماء و الأدباء ، فإنك ترى على أفكارهم و ما يكتبون صبغة عشيرة واحدة تدلك في الحال على أنهم أبناؤ عصر واحد ، و لا يلزم أن يطول الحديث مع رجل لمعرفة الدرس الذي يصبو إليه و العمل الذي اعتاده ، و البيئة التي يختلف إليها .
و يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثر بالحوادث ، فالعدوى هي التي تنفر من الشئ في وقت من الأوقات ثم ترغب فيه ثانية من كان أشد الناس بغضا له .
و العدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات و معتقداتها لا الحجج و البراهين ، ففي الخمارة تتولد أفكار الفعلة من طريق التوكيد و التكرار و العدوى ، و قليلا ما تولدت أفكار الجماعات في كل عصر من غير هذا الطريق . و قد أصاب (رنان) إذ شبه مؤسسي النصرانية الاوائل بالفعلة الاشتراكيين الذين ينشرون مبادئهم من خمارة الى أخرى . و قد قال فولتير قبل ذلك بالنسية للديانة المسيحية : إنها استمرت لا يدين بها أحد إلا أخس الناس مدة مئة عام . و يؤخذ من الامثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها الى الطبقات الرفيعة . 
هذا هو السبب في أن الفكر اذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضا بين طبقات الامة الى ارفعا و إن كان فاسدا بعيدا عن الصواب . و هذه من أغرب المشاهدات الاجتماعية ، لأن الافكار العامة لا تأتيهم دائما إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها ، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم و يشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها ، ثم يبثونها في الجماعات ، و هذه تضاعف التغيير ، ثم تصير حقيقة عند العامة ، و بعد ذلك تصعد الى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية ، و على هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا و لكن من بعد باعد ، فقد تفنى عظماء الحكماء الذين يوجدون الأفكار و تصير ترابا و يمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...