سنتكلم في هذه المقالة عن كيفية تولد اراء الجماعة و معتقداتها و كيفية حلول هذه الاراء و استقرارها في النفوس . العوامل التي تولد اراء الجماعات على قسمين بعيدة و قريبة ، أما البعيدة فهي التي تهيئ الجماعات لقبول بعض المعتقدات دون بعض ، أعني أنها التربة التي تنبت فيها افكار جديدة ذات قوة و أثر مدهشين ، و ظهور تلك الافكار يكون فجأة ، فقد تشبه في انبثاقها و العمل بها انقضاض الصاعقة ، إلا انها نتيجة عمل سابق طويل ينبغي البحث عنه . و أما العوامل القريبة فهي التي تأتي بعد هذا العمل الطويل و لا اثر لها بدونه ، و وظيفتها تكوين الاعتقاد الداعي الى الفعل ، أعني أنها تقوم الفكر و تقذف به الى الخارج مع جميع ما يحتمل من النتائج ، فهي التي تدفع الجماعات فجأة للقيام بما تمكن من نفسها من الاعمال ، و هي علة القلاقل و الاعتصابات و التفاف الجم الغفير حول رجل يرتفع بذلك الى الاوج أو ضد حكومة تهبط الى الدرك الاسفل . تتعاقب العوامل بقسميها في جميع حوادث التاريخ العظيمة ، ففي الثورة الفرنسية و هي أكبر مثال لتلك الحوادث ، كانت العوامل البعيدة هي كتب الفلاسفة و تقدم العلم و هي التي هيئت روح الجماعات ، ثم جائت العوامل القريبة مثل خطب الخطباء و معارضة ملك فرنسا لويس السادس عشر لأجراء الاصلاحات و هي التي أثارت الجماعات بسهولة . و من العوامل البعيدة ما هو عام ، بمعنى أنه يؤثر في معتقدات كل جماعة و في آرائها و هي الشعب و التقاليد و الزمن و الانظمة و التربية . و سنبحث في شأن كل واحد من هذه العوامل ، و لكن في هذه المقالة سنقصر بحثنا على الشعب و نكمل البقية في المقالات القادمة . الشعب : بدأنا به لأن له المقام الاول بين العوامل ، فله وحده من الأثر ما يربو على آثارها جميعا . أن الشعب متى ما كملت مميزاته يصير بمقتضى الوراثة نفسها ذا قوة عظمى ، و تكون له روح ترجع اليها اعتقاداته و أنظمته و فنونه و جميع عناصر مدينته ، كذلك أن قوة الشعب تبلغ حدا يتعذر معه انتقال أحد هذه العناصر من امة الى اخرى من دون ان يتغير تغيرا عاما . فمثلا يستحيل أن تنتقل اللغة أو الدين أو الفنون أو أي عنصر من عناصر المدنية من امة الى اخرى الا اذا اصابها التغير و التحول . نعم إن البيئة و الاحوال و الحوادث تشخص مقتضيات الزمن الذي هي فيه ، و قد يكون لها تأثير كبير لكنه تأثير عرضي على الدوام اذا تضارب مع مقتضيات الشعب ، أعني مع سلسلة تلك المؤثرات الوراثية .
No comments:
Post a Comment