سنتكلم في هذه المقالة عن أخلاق الجماعات ، في الحقيقة اذا اردنا بالاخلاق بما اصطلح العموم على مراعاته و قمع النفس عن الاسترسال مع نزعات حب الذات فليست الجماعة أهلا لشئ من ذلك لشدة نزقها و عدم ثباتها ، لكن اذا ادخلنا ضمن معنى هذا اللفظ التخلق مؤقتا ببعض الصفات كإهمال الذات و الاخلاص و التنزه عن الغاية و تضخية النفس و الميل الى الانصاف ، جاز أن نقول بأن الجماعات أهل للتجمل بأخلاق عالية . أما السبب الذي حدا بعلماء النفس الذين بحثوا في احوال الجماعات الى الحكم عليها بانحطاط الاخلاق ، فهو كونهم قصروا بحثهم على جهة الشر فيها فلاحظوا أن أعمالهم من هذه الجهة كثيرة . نعم هذا هو الغالب في الجماعات ، و علته أن العصور الماضية تركت شيئا من شرها و خشونتها بقية اطمأنت و استقرت في قلب كل واحد منا ، و لكن الفرد منا لا يجرؤ في الاسترسال مع هذه البقية خشية الوبال الذي ستجلبها عليه ، أما الجماعة فغير مسؤولة عن اعمالها فاذا هو انخرط فيها امن العقاب فانفلت من عقاله فاتبع هواه . فشهوة الايذاء عند الجماعة كشهوة الصيد عند المغرمين به . بقي أن الجماعة كما أنها أهل لارتكاب القتل و التدمير و كل أنواع الجرائم ، هي كذلك أهل للاخلاص في العمل و لتضحية المنافع الذاتية و النزاهة بدرجة ارقى مما يقدر الفرد . بل هي أقرب منه الى تلبية من يناديها باسم الشرف و الفخار أو باسم الدين و الوطن الى حد المخاطرة بالارواح . و من ذلك أن دعى البابا اوربان الثاني اوربا المسيحية لانقاذ قبر المسيح من المسلمين حتى اجتمعت من كل انحاء اوربا جحافل الصليبيين التي انقضت على الشرق انقضاض المفترس على فريسته . و كم من جماعة تقدمت الى الموت في سبيل معتقدات و أفكار و كلمات كانت تكاد لا تفقه شيئا من معانيها . ثبت مما تقدم أن الجماعة كما أنها تميل الى الدنايا هي اهل للتحلي بأخلاق عالية و اذا صح أن يكون التنزه في العمل و الجلد و الاخلاص المطلق لمبدأ وهمي أو صحيح من الفضائل الادبية جاز القول بأن للجماعة في الغالب من ذلك ما ليس لأعقل الحكماء الا قليلا حقا ، و هي تزاول تلك الفضائل لا عن قصد و انما بمخض غريزتها .
No comments:
Post a Comment