Friday 1 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 14

نكمل في العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها . و سنتناول في هذه المقالة التربية و التعليم . لكل عصر أفكار تسود فيه و إن كانت في الغالب من قبيل الخيالات . و من الافكار السائدة في هذا العصر أن للتعليم قدرة على تغيير الرجال تغييرا محسوسا ، و أن نتيجته التي لا يشكون فيها هي اصلاحهم ، بل ايجاد المساواة بينهم . ذكروا ذلك و كرروه فصار احد الافكار الثابتة ، و أصبح التعرض له من أصعب الامور ، كما كان يصعب التعرض لسلطان الكنيسة في السابق . نعم مما لا يشك فيه ان التعليم إذا حسنت طرائقه ينتج نتائج عملية ذات فائدة كبيرة ، فإذا هو لم يرفع درجة التهذيب و يؤثر في رقي الاخلاق ، فإنه ينمي الكفاءات الفنية . و لكن لسوء الحظ فإن التربية اذا ساءت طرائقها فيكون ضررها أكبر من نفعها . و أول هذه الطرائق الخاطئة في التعليم ما يحكم علم النفس عليها بالفساد . ذلك أنهم قالوا إن الحفظ عن ظهر قلب يزيد الذكاء و يقوي الفطنة ، ثم انتقلوا من هذا الى وجوب الاكثار من الحفظ ما استطاعوا ، و صار المتعلم في المدرسة الابتدائية و الثانوية و العالية حتى الذي يتلقى علوم الاستاذية لا يعمل إلا للحفظ ، و هو في ذلك كله لا يدرب مداركه و لا يمرن ملكة الاقدام على العمل من نفسه ، لان التعليم في نظره ينحصر في القاء المحفوظ و في الخضوع . و لكن لو كان ضرر هذه التربية قاصرا على عدم فائدتها لاكتفينا بالعطف على اولئك الاطفال المساكين الذين يحفظون تلك الكتب المدرسية المملة ، بدلا من أن يتعلموا أشياء اخرى نافعة ، لكن ضررها اكبر من ذلك ، فهي تولد في نفس المتعلم سآمة شديدة من حالته التي هو عليها بمقتضى نشأته ، و رغبة شديدة في الانسلاخ عنها ، فلا الصانع يبغي البقاء على صنعته و لا الفلاح يميل الى الدوام في فلاحته . و أقل الناس في الطبقة الوسطى لا يختار لابنائه عملا إلا في وظائف الحكومة . و المدرسة لا تربي رجالا قادرين على الحياة ، و انما تخرج عمالا لوظائف ينجح فيها الانسان دون أن يهتم بقيادة نفسه و لا أن يتقدم الى عمل من ذاته . ان الاكتساب السطحي لتلك المعارف الكثيرة و أجادة حفظ و استظهار تلك الكتب المدرسية المملة لا يرقي فينا ملكة العقل . أما التعليم الفني العملي هو الذي يربي فينا ملكة العقل و الملاحظة .

No comments:

Post a Comment