Friday 1 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 13

تناولنا في آخر المقالات العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها ، حيث تناولنا في المقالة السابقة عامل الزمان و سنكمل في بقية العوامل . في هذه المقالة سنتناول عامل الانظمة السياسية و الاجتماعية . لا يزال الناس يذهبون الى ان الانظمة تقوم و تعدل ما اعوج من الهيئة الاجتماعية ، و ان تقدم الامم أثر من آثار اتقان تلك الانظمة و اصلاح الحكومات ، و انه يمكن احداث الانقلابات الاجتماعية بواسطة الاوامر و القوانين . ذاك وهم تأصل في الافكار لما تبدده التجارب على تكرارها ، و قد ضاعت جهود الفلاسفة و المؤرخين سدى في بيان فساده و بطلانه . ان الانظمة هي بنات الافكار و المشاعر و الاخلاق ، و ان الافكار و المشاعر و الاخلاق لا تتغير بتغيير القوانين ، و ان الامم لا تختار نظامها كما تشتهي ، كما انها لا تملك اختيار لون اعينها و شعر رؤوسها ، بل ان الانظمة و الحكومات هي ثمرة الشعب التي هي فيه ، فليست هي التي تخلق زمانها ، و لكنها هي التي أوجدها زمانها . و كما ان كل نظام لم يستقر الا بعد قرون عدة كذلك ينبغي لتغييره قرون عدة . و ليست للانظمة قيمة نوعية في ذاتها ، فهي لا تكون حسنة لذاتها و لا هي رديئة لذاتها . و ان ما صلح منها لامة في زمان من الممكن ان يكون مضرا في امة اخرى . لذلك كان من المحقق ان الامة لا تستطيع ان تغير انظمتها كما تشاء ، نعم بإمكانها ان تبدل أسماءها بواسطة الثورات العنيفة و الاضطرابات القوية ، لكن اللب يبقى كما كان . أما الاسماء فهي عناوين لا يلتفت اليها المؤرخ الذي ينقب عن حقائق الاشياء . لذلك كان من العبث جدا اضاعة الزمن في خلق نظام جديد من جديد ، فلا فائدة من ذلك ، فالحاجة و الزمان هما الكفيلان بإعداده اذا عقل الناس و تركوا هذين العاملين يعملان . فالقوانين في كل أمة منتزعة من روحها ، و أنه لا يمكن لذلك تغييرها عنوة و قسرا . يجوز الجدل فلسفيا في هل حصر السلطة و ارجاعها في النهاية الى يد واحدة أفضل من تفريقها ، أم العكس أولى . لكن إذا رأينا امة مؤلفة من عناصر مختلفة قضت الف عام فوصلت بعد ذلك الى حصر السلطة و جمعها ، و رأينا من جهة أخرى أن ثورة عظيمة جائت لتحطم كل نظام ولده الزمان قد احترمت هذا الحصر و بالغت فيه ، كان لنا ان نقول : ان هذا النظام هو ابن الضرورة التي لا مفر منها ، و انه شرط من شروط حياة تلك الامة ، و أن نرثي لحال اولئك السياسيين الذين يذهبون الى وجوب ابطال ذلك النظام . و لو أن الصدفة ساعدتهم على نيل ما يبتغون لكانت نتيجة ذلك قيام حرب أهلية يستطير شررها و العودة عاجلا ام آجلا الى حصر السلطة بأشد مما هي عليه . نتج من ذلك أن التأثير الحقيقي في روح الجماعات لا يكون عن طريق الانظمة . و أن الذي يحكم الامم انما هو اخلاقها . و كل نظام لا يندمج مع تلك الاخلاق و يمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار و هو ستار لا يدوم . 

No comments:

Post a Comment