قد بينا أنه متى ما كثر تكرار امر معين و أجمع عليه المكررون ، انتقل هذا الأمر بالعدوى . و لا يجب في العدوى وجود أفراد كثيرين في مكان واحد ، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها .
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه الى التقليد ، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته ، و القليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس ، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان ، و لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها ، و إنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع ، و لذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم ألا نادرا لبعد البون بينهما و من هنا قل تأثير الأوربي في الشرقي ، لأن الخلف شديد بين الرجلين .
يتشابه أهل كل عصر في أمة بتأثير الزمن و تبادل التقليد ، حتى الذين يخيل أنهم متفاوتون ، كالحكماء و العلماء و الأدباء ، فإنك ترى على أفكارهم و ما يكتبون صبغة عشيرة واحدة تدلك في الحال على أنهم أبناؤ عصر واحد ، و لا يلزم أن يطول الحديث مع رجل لمعرفة الدرس الذي يصبو إليه و العمل الذي اعتاده ، و البيئة التي يختلف إليها .
و يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثر بالحوادث ، فالعدوى هي التي تنفر من الشئ في وقت من الأوقات ثم ترغب فيه ثانية من كان أشد الناس بغضا له .
و العدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات و معتقداتها لا الحجج و البراهين ، ففي الخمارة تتولد أفكار الفعلة من طريق التوكيد و التكرار و العدوى ، و قليلا ما تولدت أفكار الجماعات في كل عصر من غير هذا الطريق . و قد أصاب (رنان) إذ شبه مؤسسي النصرانية الاوائل بالفعلة الاشتراكيين الذين ينشرون مبادئهم من خمارة الى أخرى . و قد قال فولتير قبل ذلك بالنسية للديانة المسيحية : إنها استمرت لا يدين بها أحد إلا أخس الناس مدة مئة عام . و يؤخذ من الامثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها الى الطبقات الرفيعة .
هذا هو السبب في أن الفكر اذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضا بين طبقات الامة الى ارفعا و إن كان فاسدا بعيدا عن الصواب . و هذه من أغرب المشاهدات الاجتماعية ، لأن الافكار العامة لا تأتيهم دائما إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها ، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم و يشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها ، ثم يبثونها في الجماعات ، و هذه تضاعف التغيير ، ثم تصير حقيقة عند العامة ، و بعد ذلك تصعد الى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية ، و على هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا و لكن من بعد باعد ، فقد تفنى عظماء الحكماء الذين يوجدون الأفكار و تصير ترابا و يمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها .
No comments:
Post a Comment