Monday 8 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 26

حدود تقلب معتقدات الجماعات و أفكارها : 
نبدأ في المعتقدات الثابتة . يوجد بين الخواص التشريحية أي الجسمانية و الخواص النفسية تشابه تام ، فمن الأولى ما هو ثابت أو لا يتغير إلا ببطئ شديد بحيث يلزم لتغييره زمن كالذي بيننا و بين الطوفان ، و منها ما هو متقلب يتغير بالسهولة من أثر البيئة أو المربي ، و قد يبلغ التغيير درجة تختفي فيها الخواص الاصلية على غير المتأمل . 
و كذلك الحال في الخواص الأدبية ، فمن أخلاق الشعب ما هو ثابت لا يغيره كرور الأيام ، و منها ما هو متقلب يتغير . و من ينعم النظر في معتقدات الأمم و أفكارها يرى دائما في أخلاقها أصلا ثابتا ترسب فوقه أفكار متقلبة كما ترسب الرمال فوق الصخر . 
و عليه تنقسم معتقدات الجماعات الى قسمين : الأول المعتقدات الدائمة التي تعمر عدة قرون ، و اليها ترجع مدنية الأمة كلها كالأفكار المسيحية و أفكار الإصلاح ( البروتستانتي ) و الأفكار الديمقراطية و الاجتماعية في أيامنا . و القسم الثاني يشمل الأفكار الوقتية المتغيرة ، و هي مشتقة في الغالب من الأفكار العامة تظهر و تغيب في الجيل الواحد كالنظريات التي تسترشد بها الفنون و الأدب في أوقات معلومة ، و مذهب حرية الكتابة و مذهب الطبيعيين و الصوفيين و غيرها . و تلك الأفكار كلها سطحية سريعة التغير ، فمثلها كمثل الأمواج الصغيرة التي تظهر و تختفي من دون انقطاع على سطح بحيرة عميقة . 
المعتقدات الكبيرة العامة قليلة جدا ، و قيامها و سقوطها في كل أمة ذات تاريخ يمثلان أعظم دور في حياتها ، و لا قوام للمدنية بدونها . 
و من السهل جدا إيجاد فكر وقتي في عقول الجماعات ، لكن من الصعب جدا تقرير معتقد دائم في نفوسها ، كما أنه من الصعب جدا هدم اعتقاد تمكن منها ، و لا سبيل الى التغيير غالبا الا بالثورات العنيفة ، بل إن الثورة لا تؤدي إلى ذلك إلا إذا اضمحل قبلها أثر المعتقد في النفوس ، فهي تصلح لكسح تلك البقية التي لا تكون في حكم المهمل لولا أن سلطان العادة يمنع من الإقلاع عنها بالمرة ، فالثورة التي تقبل عبارة عن معتقد يدبر .
و من السهل تجديد اليوم الذي يندك فيه أحد المعتقدات الكبرى ، ذلك هو يوم يؤخذ الناس بالبحث في قيمة هذا الاعتقاد ، لأن كل اعتقاد عام يكاد يكون أمرا فرضيا ، فهو لا يحتمل البقاء إلا بشرط عدم البحث فيه .
غير أن النظامات التي أسست على إعتقاد عام تستمر حافظة لقوتها و لا تتحلل إلا ببطئ ، و إن تزعزع ذلك الاعتقاد ، فإذا تم له الهدم تساقط ما بني عليه .
و مما قضت به سنة الوجود حتى الآن أن كل أمة أصبحت متمكنة من تغيير معتقداتها لا بد لها عاجلا من تغيير جميع أركان حضارتها ، فهي تغير و تبدل فيها حتى تهتدي الى معتقد جديد عام ترضاه النفوس و تعيش في فوضى حتى تعثر عليه ، فالمعتقدات العامة هي دعائم الحضارة التي لا بد منها ، و هي التي ترسم للأفكار طريقها الذي تسير فيه ، و هي التي توحي بالإيمان و تفرض الواجبات .



No comments:

Post a Comment