Tuesday 9 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 27

أدركت الأمم على الدوام فائدة المعتقدات العامة ، و فطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها . عبد الرومان مدينة روما عبادة المتعصبين ، فسادوا على الدنيا أجمع ، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما ، و استمر المتبربرون الذين خربوا ملكها على همجيتهم حتى إذا رسخت بينهم بعض المعتقدات العامة وجد فيهم شئ من الامتزاج و التآلف و خرجوا من الفوضى . 
و عليه تعذر الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها ، إذ الحقيقة أن هذا التعصب هو أرقى الفضائل في حياة الأمم و إن كان مذموما من الجهة الفلسفية .
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوف من الناس إلا للدفاع عن معتقد موجود أو لإدخال معتقد عام جديد في النفوس . و ما مات الكثير من المخترعين و المبتدعين و الأسى ملئ قلوبهم إلا لأنهم لم ينالوا قسطا من العذاب لأجل تلك المعتقدات ، و ما اضطربت الدنيا مرة بعد مرة إلا للدفاع عنها ، و ماتت الملايين في سوح الوغى إلا بسببها ، و كذلك يكون في مستقبل الأيام . 
من الصعب غرس معتقد جديد ، لكنه بعد أن يتمكن من النفس يدوم شديد التأثير زمنا طويلا ، و كيفما كان خطأً من الجهة الفلسفية ، فإنه يتسلط على أكبر ذوي الألباب ، بدليل أن الأمم الأوروبية دانت للأقاصيص و اعتقدتها حقائق لا شك فيها خمسة عشر قرنا و المتأمل في تلك القصص يراها أحق بالقوم الهمج . و مع ذلك فلم يستطع عباقرة كمثل غاليلو غاليلي ( عالم فيزياء إيطالي ) و نيوتن (عالم فيزياء إنكليزي ) و لايبنيتز ( عالم فيزياء فرنسي ) أن يناقشوا حقيقية هذه الأفكار و الأقاصيص ، ذلك مما يبرهن على قوة استيلاء المعتقدات العامة و سحرها في النفوس ، و لكنه يبرهن أيضا على أن العقل محدود بحدود مخجلة . 
و متى ما تمكنت عقيدة جديدة من نفوس الجماعات أصبحت مصدر نظاماتها و مرجع فنونها و قاعدة سيرها . هنالك يستحكم سلطانها و تتم غلبتها ، فترة أهل العزائم لا يفكرون إلا في تحقيقها ، و واضعي القوانين إلا الأخذ بها ، و الفلاسفة و أرباب الفنون و الكتاب إلا في تمثيلها على صور شتى .
و قد يتولد عن العقيدة العامة أفكار وقتية ثانوية ، إلا أنها تكون على الدوام مصبوغة بصبغتها ، فقد تولدت حضارة المصريين و حضارة الأوروبيين و حضارة المسلمين في القرون الوسطى من عقائد دينية قليلة العدد ، طبعت كل عقيدة منها خاتمها على كل جزئية من جزئيات حضارتها و سهلت بذلك معرفتها .
من هذا يتبين أن الفضل للعقائد العامة في إحاطة أهل كل عصر بتقاليد و أفكار و عادات تقيدوا بها و صاروا متشابهين ، و الذي يهدي الناس في سيرهم إنما هي الأفكار و العادات المتولدة عن تلك العقائد ، فهي الحاكمة على أعمالنا جليلها و صغيرها ، و كيفما سمت مداركنا فإنا لا نفكر في الخلاص منها ، إذ الاستبداد الحقيقي هو الذي يدخل على النفوس من طريق الغرائز ، لأنه هو الذي لا يتمكن المء من محاربته ، فلقد كان ( تيبير ) و ( جنكيزخان ) و (نابليون) جبارين مستبدين ، و لكن استئثار موسى و بوذا و عيسى و محمد و لوثر و هم في القبور أشد و أبقى . 
ما كان بطلان العقائد العامة من حيث النظر و الفلسفة مانعا من استظهارها ، و قد يظهر أن فوزها مشروط بإحتوائها على شئ من الهزء الخفي . و إذا كانت مذاهب الاشتراكيين في العصر الحاضر واضحة الضعف ، فليس ضعفها هذا هو سبب عدم استيلائها على نفوس الجماعات ، و انما السبب في انحطاطها عن جميع العقائد الدينية راجع إلى أن السعادة التي وعدت بها الديانات لا اخقق إلا في الديار الباقية فلم يكن أحد يماري في تحقيقها . و أما السعادة التي وعد بها مذهب الاشتراكيين ، فإنها يجب أن تتحقق في الحياة الدنيا ، و متى شرع في ذلك بان أن الوعد خلب و سقط بذلك نفوذ العقيدة الجديدة ، و عليه فلا يعظم سلطان هذه العقيدة إن تم لها الظفر إلا إلى اليوم الذي يبدأ فيه بتحقيقها ، و ذلك هو السبب في أن هذا الدين الجديد له من قوة التخريب ما كان لغيره من الأديان التي سبقته ، و لكنه لن يكون له ما كان لها من قوة النبأ .

No comments:

Post a Comment