Thursday 7 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 15

فرغنا من البحث في العوامل البعيدة التحضيرية التي تهيئ نفوس الجماعات لظهور بعض الاميال و الافكار . بقي علينا ان نبحث في العوامل القريبة ، اي التي تؤثر فيها مباشرة . سنبحث في هذه المقالة أول عامل من العوامل القريبة و هو عامل الصور و الالفاظ و الجمل . أن الجماعات تتأثر على الاخص بالصور . و ليست الصور ممكنة في كل وقت ، لكن من السهل استحضارها في الذهن بالحذق في استعمال الالفاظ و الجمل ، و متى كان المستعمل لهما بارعا فلها قوة السحر على الجماعات ، فهي التي تثير في نفس الجماعات أشد صواعق الغضب ، و هي التي تسكنها اذا جاشت ، و لو جمعت عظام الذين ذهبوا ضحية الالفاظ و الجمل لأمكن أن يقام منها هرم أرفع من هرم خيوبس القديم. السر في تأثير الالفاظ للصور التي تحضر في الذهن بواسطتها ، و ليس لذلك التأثير ارتباط بمعانيها الحقيقية ، بل الغالب أن أشدها تأثيرا ما كان معناه غير واضح تماما . مثال ذلك كلمات : ديمقراطية ، اشتراكية ، مساواة ، حرية ... و هكذا مما أبهم معناه . و الكل يسلم أن لها سلطانا ينساب في النفوس كأنها اشتملت على حل المسائل الاجتماعية كلها ، و فيها تتمثل الاميال اللاشعورية على اختلافها و الامل في تحقيقها . لبعض الالفاظ و الجمل سلطان لا يضعفه العقل و لا يؤثر فيه الدليل ، الفاظ و جمل ينطقها المتكلم خاشعا أمام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين و تعنو الوجوه لها احتراما ، و كثير يعتقدون ان فيها قوة الهية . الفاظ و جمل تثير في النفوس صورا لا كيف لها و لا انحصار ، محفوفة بالإكبار و الإعظام ، ابهامها و غموضها يزيد في قوتها الخفية ، فهي آلهة لا تدركها الابصار قد احتجبت خلف المظلة التي ترتعد لهيبتها فرائص العابد إذا تقدم نحوها . و لما كانت الصور التي تستحضرها الالفاظ مستقلة عن معانيها كانت مختلفة باختلاف الاجيال و الامم و ان اتحدت صيغتها ، و لبعض الالفاظ صور تتلوها على الأثر كأن الكلمة منبه اذا تحرك برزت صورته . و من الالفاظ ما هو مجرد عن قوة استحضار صورة ما ، و منها ما تكون له تلك القوة أولا ، ثم تبلى بالاستعمال فتفقدها تماما و تصير اصواتا فارغة تنحصر فائدتها في إعفاء المتكلم بها من التفكر و الامعان . و من السهل على الانسان إذا حفظ في صغره قليلا من الالفاظ و شيئا من الجمل المصطلح عليها أن يجتاز الحياة بها من دون الحاجة الى اجهاد النفس بالفكر في امر من امور الدنيا . 

Friday 1 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 14

نكمل في العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها . و سنتناول في هذه المقالة التربية و التعليم . لكل عصر أفكار تسود فيه و إن كانت في الغالب من قبيل الخيالات . و من الافكار السائدة في هذا العصر أن للتعليم قدرة على تغيير الرجال تغييرا محسوسا ، و أن نتيجته التي لا يشكون فيها هي اصلاحهم ، بل ايجاد المساواة بينهم . ذكروا ذلك و كرروه فصار احد الافكار الثابتة ، و أصبح التعرض له من أصعب الامور ، كما كان يصعب التعرض لسلطان الكنيسة في السابق . نعم مما لا يشك فيه ان التعليم إذا حسنت طرائقه ينتج نتائج عملية ذات فائدة كبيرة ، فإذا هو لم يرفع درجة التهذيب و يؤثر في رقي الاخلاق ، فإنه ينمي الكفاءات الفنية . و لكن لسوء الحظ فإن التربية اذا ساءت طرائقها فيكون ضررها أكبر من نفعها . و أول هذه الطرائق الخاطئة في التعليم ما يحكم علم النفس عليها بالفساد . ذلك أنهم قالوا إن الحفظ عن ظهر قلب يزيد الذكاء و يقوي الفطنة ، ثم انتقلوا من هذا الى وجوب الاكثار من الحفظ ما استطاعوا ، و صار المتعلم في المدرسة الابتدائية و الثانوية و العالية حتى الذي يتلقى علوم الاستاذية لا يعمل إلا للحفظ ، و هو في ذلك كله لا يدرب مداركه و لا يمرن ملكة الاقدام على العمل من نفسه ، لان التعليم في نظره ينحصر في القاء المحفوظ و في الخضوع . و لكن لو كان ضرر هذه التربية قاصرا على عدم فائدتها لاكتفينا بالعطف على اولئك الاطفال المساكين الذين يحفظون تلك الكتب المدرسية المملة ، بدلا من أن يتعلموا أشياء اخرى نافعة ، لكن ضررها اكبر من ذلك ، فهي تولد في نفس المتعلم سآمة شديدة من حالته التي هو عليها بمقتضى نشأته ، و رغبة شديدة في الانسلاخ عنها ، فلا الصانع يبغي البقاء على صنعته و لا الفلاح يميل الى الدوام في فلاحته . و أقل الناس في الطبقة الوسطى لا يختار لابنائه عملا إلا في وظائف الحكومة . و المدرسة لا تربي رجالا قادرين على الحياة ، و انما تخرج عمالا لوظائف ينجح فيها الانسان دون أن يهتم بقيادة نفسه و لا أن يتقدم الى عمل من ذاته . ان الاكتساب السطحي لتلك المعارف الكثيرة و أجادة حفظ و استظهار تلك الكتب المدرسية المملة لا يرقي فينا ملكة العقل . أما التعليم الفني العملي هو الذي يربي فينا ملكة العقل و الملاحظة .

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 13

تناولنا في آخر المقالات العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها ، حيث تناولنا في المقالة السابقة عامل الزمان و سنكمل في بقية العوامل . في هذه المقالة سنتناول عامل الانظمة السياسية و الاجتماعية . لا يزال الناس يذهبون الى ان الانظمة تقوم و تعدل ما اعوج من الهيئة الاجتماعية ، و ان تقدم الامم أثر من آثار اتقان تلك الانظمة و اصلاح الحكومات ، و انه يمكن احداث الانقلابات الاجتماعية بواسطة الاوامر و القوانين . ذاك وهم تأصل في الافكار لما تبدده التجارب على تكرارها ، و قد ضاعت جهود الفلاسفة و المؤرخين سدى في بيان فساده و بطلانه . ان الانظمة هي بنات الافكار و المشاعر و الاخلاق ، و ان الافكار و المشاعر و الاخلاق لا تتغير بتغيير القوانين ، و ان الامم لا تختار نظامها كما تشتهي ، كما انها لا تملك اختيار لون اعينها و شعر رؤوسها ، بل ان الانظمة و الحكومات هي ثمرة الشعب التي هي فيه ، فليست هي التي تخلق زمانها ، و لكنها هي التي أوجدها زمانها . و كما ان كل نظام لم يستقر الا بعد قرون عدة كذلك ينبغي لتغييره قرون عدة . و ليست للانظمة قيمة نوعية في ذاتها ، فهي لا تكون حسنة لذاتها و لا هي رديئة لذاتها . و ان ما صلح منها لامة في زمان من الممكن ان يكون مضرا في امة اخرى . لذلك كان من المحقق ان الامة لا تستطيع ان تغير انظمتها كما تشاء ، نعم بإمكانها ان تبدل أسماءها بواسطة الثورات العنيفة و الاضطرابات القوية ، لكن اللب يبقى كما كان . أما الاسماء فهي عناوين لا يلتفت اليها المؤرخ الذي ينقب عن حقائق الاشياء . لذلك كان من العبث جدا اضاعة الزمن في خلق نظام جديد من جديد ، فلا فائدة من ذلك ، فالحاجة و الزمان هما الكفيلان بإعداده اذا عقل الناس و تركوا هذين العاملين يعملان . فالقوانين في كل أمة منتزعة من روحها ، و أنه لا يمكن لذلك تغييرها عنوة و قسرا . يجوز الجدل فلسفيا في هل حصر السلطة و ارجاعها في النهاية الى يد واحدة أفضل من تفريقها ، أم العكس أولى . لكن إذا رأينا امة مؤلفة من عناصر مختلفة قضت الف عام فوصلت بعد ذلك الى حصر السلطة و جمعها ، و رأينا من جهة أخرى أن ثورة عظيمة جائت لتحطم كل نظام ولده الزمان قد احترمت هذا الحصر و بالغت فيه ، كان لنا ان نقول : ان هذا النظام هو ابن الضرورة التي لا مفر منها ، و انه شرط من شروط حياة تلك الامة ، و أن نرثي لحال اولئك السياسيين الذين يذهبون الى وجوب ابطال ذلك النظام . و لو أن الصدفة ساعدتهم على نيل ما يبتغون لكانت نتيجة ذلك قيام حرب أهلية يستطير شررها و العودة عاجلا ام آجلا الى حصر السلطة بأشد مما هي عليه . نتج من ذلك أن التأثير الحقيقي في روح الجماعات لا يكون عن طريق الانظمة . و أن الذي يحكم الامم انما هو اخلاقها . و كل نظام لا يندمج مع تلك الاخلاق و يمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار و هو ستار لا يدوم . 

Thursday 30 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 12

نكمل في سلسلة المقالات التي تتكلم عن العوامل البعيدة المؤثرة في اراء الجماعات و معتقداتها . حيث تكلمنا في المقالة السابقة عن التقاليد و سنتكلم في هذه المقالة عن الزمان . من اهم العوامل التي يبحث فيها في علم الاجتماع هو الزمان ، فهو الموجد الحقيقي الوحيد و هو الهادم القوي الوحيد . هو الذي كون الجبال من حبيبات الرمال و رفع الخلية الحقيرة التي اشتملت على اصل الوجود النوعي الى مقام الانسان ، و كل ظاهرة و كل حادثة لا تتغير و لا تتحول الا بالزمان . و لقد اصاب من قال أن النملة اذا امتد امامها الزمن فبوسعها أن تجعل الجبل الرفيع مهادا ، و لو أن موجودا تمكن من تصريف الزمان كما يشاء لكان صاحب القوة التي يعترف بها المؤمنون للواحد الديان . بحثنا هنا قاصر على تأثير الزمان في آراء الجماعات و معتقداتها ، و هو فيها له كذلك الاثر العظيم ، فهو القاهر فوق اكبر المؤثرات الاخرى من التي لا تكون بدونه كالشعب و غيره و هو الذي يولد المعتقدات فينميها ثم يميتها ، و منه تستمد قوتها و بفعله يتولاها الضعف و الانحلال . و الزمان هو بالاخص محضر آراء الجماعات أو قل هو مهيئ التربة التي نبتت فيها . و لذلك صح وجود بعض الافكار في زمن و امتنع وجودها في زمن آخر . فالزمان هو الذي يهيئ قيام الاراء و المذاهب في العصور المتتابعة ، لانها لا تنبت صدفة و لا توجد اتفاقا ، بل إن لكل واحد منها جذورا تمتد في زمن بعيد ، فإذا انبثقت فإنما الزمان هو الذي هيأ تفتح ازهارها ، و اذا أردت أن تعرف كنهها فارجع الى ماضيها . هي بنات الماضي و امهات المستقبل . نتج من هذا ان الزمان هو صاحب السيادة الحقيقية فينا ، و ما علينا الا ان نتركه يعمل لنرى كل شئ يتحول و يتبدل . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 11

بدأنا في الحديث في المقالة السابقة عن العوامل البعيدة التي تؤثر في آراء الجماعات و معتقداتها و شرحنا في تلك المقالة عامل الشعب و سوف نكمل  بقية العوامل ، و سوف نبدأ بالتقاليد . التقاليد عبار عن ماضي الامة في أفكارها و حاجاتها و مشاعرها ، فهي تشخص روح الشعب و لها في القوم تأثير عظيم . إن كثيرا من المفكرين و أقطاب السياسة لا يزالون على أفكار الماضي ، فيعتقدون أنه يتيسر للأمة أن تنخلع من ماضيها وتنشأ نفسها من جديد غير مستهدية في ذلك الا بنور العقل وحده ، و فاتهم أن الامة جسم منظم أوجده الماضي ، فهي كغيرها من الاجسام لا تستطيع الانتقال من طور الى طور إلا بتراكم آثار الوراثة فيها على مهل . و الذي يقود الناس و لا سيما اذا اجتمعوا إنما هي التقاليد و هم لا يسهل عليهم أن يغيروا منها سوى الاسماء و الاشكال . و ليس هذا مما يوجب الاسف ، إذ لولا التقاليد ما كان هنالك شئ يقال له روح قومية و لا حضارة ممكنة ، ألا ترى أن هم الناس مذ وجدوا أن يكون لهم تقاليد ، فإذا زال نفعها اجتهدوا في هدمها . و الحاصل أنه لا مدنية من دون تقاليد . ثم ان الرقي موقوف على هدمها . و الصعوبة في ايجاد التوازن بين التقلب و البقاء ، إلا أنها صعوبة كبرى ، فإذا تأصلت في الامة عادات و تمكنت منها أخلاق عدة أجيال تعذر عليها الانتقال ، و لا تؤثر فيها الثورات العنيفة ، لانها لا تأتي الا بإحدى نتيجتين : فإما الحلقات التي تقطعت من السلسلة تنضم و تلتحم ببعضها فيعود الماضي الى التربع في سيادته بدون تغيير ما . و اما ان تبقى تلك الحلقات منثورة فهي الفوضى و يتبعها التقهقر و الانحطاط . لذلك كان اكبر النعم التي يجب ان تصبو اليها الامة هي المحافظة على الانظمة التي ورثتها ، و أن تسير في الانتقال بها من طور الى اكمل منه على مهل و بلا اهتزاز . و أشد الناس محافظة على الافكار القديمة و التقليدية و اصعبهم مراسا في معارضة من يحاول تبديلها هي الجماعات .

Wednesday 29 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 10

سنتكلم في هذه المقالة عن كيفية تولد اراء الجماعة و معتقداتها و كيفية حلول هذه الاراء و استقرارها في النفوس . العوامل التي تولد اراء الجماعات على قسمين بعيدة و قريبة ، أما البعيدة فهي التي تهيئ الجماعات لقبول بعض المعتقدات دون بعض ، أعني أنها التربة التي تنبت فيها افكار جديدة ذات قوة و أثر مدهشين ، و ظهور تلك الافكار يكون فجأة ، فقد تشبه في انبثاقها و العمل بها انقضاض الصاعقة ، إلا انها نتيجة عمل سابق طويل ينبغي البحث عنه . و أما العوامل القريبة فهي التي تأتي بعد هذا العمل الطويل و لا اثر لها بدونه ، و وظيفتها تكوين الاعتقاد الداعي الى الفعل ، أعني أنها تقوم الفكر و تقذف به الى الخارج مع جميع ما يحتمل من النتائج ، فهي التي تدفع الجماعات فجأة للقيام بما تمكن من نفسها من الاعمال ، و هي علة القلاقل و الاعتصابات و التفاف الجم الغفير حول رجل يرتفع بذلك الى الاوج أو ضد حكومة تهبط الى الدرك الاسفل . تتعاقب العوامل بقسميها في جميع حوادث التاريخ العظيمة ، ففي الثورة الفرنسية و هي أكبر مثال لتلك الحوادث ، كانت العوامل البعيدة هي كتب الفلاسفة و تقدم العلم و هي التي هيئت روح الجماعات ، ثم جائت العوامل القريبة مثل خطب الخطباء و معارضة ملك فرنسا لويس السادس عشر لأجراء الاصلاحات و هي التي أثارت الجماعات بسهولة . و من العوامل البعيدة ما هو عام ، بمعنى أنه يؤثر في معتقدات كل جماعة و في آرائها و هي الشعب و التقاليد و الزمن و الانظمة و التربية . و سنبحث في شأن كل واحد من هذه العوامل ، و لكن في هذه المقالة سنقصر بحثنا على الشعب و نكمل البقية في المقالات القادمة . الشعب : بدأنا به لأن له المقام الاول بين العوامل ، فله وحده من الأثر ما يربو على آثارها جميعا . أن الشعب متى ما كملت مميزاته يصير بمقتضى الوراثة نفسها ذا قوة عظمى ، و تكون له روح ترجع اليها اعتقاداته و أنظمته و فنونه و جميع عناصر مدينته ، كذلك أن قوة الشعب تبلغ حدا يتعذر معه انتقال أحد هذه العناصر من امة الى اخرى من دون ان يتغير تغيرا عاما . فمثلا يستحيل أن تنتقل اللغة أو الدين أو الفنون أو أي عنصر من عناصر المدنية من امة الى اخرى الا اذا اصابها التغير و التحول . نعم إن البيئة و الاحوال و الحوادث تشخص مقتضيات الزمن الذي هي فيه ، و قد يكون لها تأثير كبير لكنه تأثير عرضي على الدوام اذا تضارب مع مقتضيات الشعب ، أعني مع سلسلة تلك المؤثرات الوراثية . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 9

تكلمنا في المقالة السابقة عن تعقل الجماعات و في هذه المقالة سنتكلم عن تخيل الجماعات.ان الجماعات ﻛﺎﻟﺬوات اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻌﻘﻞ ﰲ ﺣﺪة اﻟﺘﺨﻴﻞ وﻓﻌﻠﻪ اﻟﺪاﺋﻢ، وﰲ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻟﻠﺘﺄﺛﺮ اﻟﺸﺪﻳﺪ، ﻓﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﴬﻫﺎ ﻣﻦ إﻧﺴﺎن أو واﻗﻌﺔ ﺗﻜﺎد ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ، وﺣﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت أﺷﺒﻪ ﺑﺎلمنوم اﻟﺬي ﺗﻘﻒ ﻓﻴﻪ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻓﺘﺤﴬ ﰲ ذﻫﻨﻪ ﺻﻮر ﻣﺆﺛﺮة ﺟﺪٍّا، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺰول ﺑﻤﺠﺮد اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ. و لما ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت لا تعرف التعقل و لا التأمل فانها  لا تعرف أن شيئا ما غير معقول ،   و غير المعقول هو اشد تأثيرا ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻏﺎﻟﺒًﺎ . ﻟﻬﺬا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻬﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ واﻟﻘﺼﺼﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺣﻮاس اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ أﻛﱪ ﻣﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ، وإذا دﻗﻘﻨﺎ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﺣﻀﺎرة ﻣﺎ وﺟﺪﻧﺎﻫﺎ إﻧﻤﺎ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﻐﺮﻳﺐ واﻟﻘﺼﺺ، ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻠﻈﺎﻫﺮ ﻓﻴﻪ ﺷﺄن أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ واﻟﻮﻫﻤﻲ ﺳﺎﺋﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ . ﻻ ﺗﺘﻌﻘﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت إﻻ ﺑﺎﻟﺘﺨﻴﻞ وﻻ ﺗﺘﺄﺛﺮ إﻻ ﺑﻪ، ﻓﺎﻟﺼﻮر ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺰﻋﻬﺎ وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺬﺑﻬﺎ وﺗﻜﻮن ﺳﺒﺒًﺎ ﻷﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ، ﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن اﻟﺘﺸﺨﻴﺺ ﰲ الملاهي ﻣﻦ أﻛﱪ المؤثرات ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت داﺋﻤًﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﺜﻞ ﻟﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ أﺟﲆ ﺻﻮرﻫﺎ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴين  ﺗﺮى اﻟﺴﻌﺎدة ﻛﻞ اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ اﻟﻌﻴﺶ في الملاهي ، وﻗﺪ ﻣﺮت اﻟﻘﺮون وﺗﻌﺎﻗﺒﺖ اﻟﺪﻫﻮر وﻟﻢ ﻳﺘﻐير  ﻫﺬا . وﻻ ﻳﺰال اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ أﻛﱪ ﻣﺆﺛﺮ ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت. ،اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ ﻳﺘﺄﺛﺮون ﺑﻤﺆﺛﺮ واﺣﺪ وإن ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﻨﺘﻘﻠﻮن ﻋﲆ اﻟﻔﻮر ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر إﱃ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﺬﻟﻚ ﻷن اﻟﻔﺮد ﻣﻨﻬﻢ وإن ﺑﻠﻎ ﻣﻨﻪ ﻋﺪم اﻻﻟﺘﻔﺎت ﻟﻠﻮاﻗﻊ ﻣﺎ ﺑﻠﻎ ﻻ ﻳﻨﴗ أﻧﻪ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺨﻴﺎل وأﻧﻪ إﻧﻤﺎ ﺿﺤﻚ أو ﺑﻜﻰ ﻣﺘﺄﺛﺮًا ﺑﺤﻮادث ﺗﺼﻮرﻳﺔ، ﻋﲆ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻘﻊ أن اﻟﺼﻮرة ﺗﻔﻌﻞ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻓﻌﻞ المؤثرات اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻓﺘﺪﻓﻌﻬﺎ إﱃ اﻟﻌﻤﻞ؛ إذ كثيرا ﻣﺎ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﻋﻦ ﻣﻠﻬﻰ ﻛﺎن ﻳﻜﺜﺮ ﻣﻦ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﺮواﻳﺎت المحزنة ﻓﻜﺎن اﻟﺤﺮس ﻳﺤﻴﻂ داﺋﻤًﺎ ﺑﻤﻤﺜﻞ اﻟﺨﺎﺋﻦ اﻷﺛﻴﻢ عند خروجه خوفا عليه من هياج المتفرجين الذين يريدون ان ينتقموا من لانه قام بارتكاب تلك الجرائم الوهمية .  وﻫﺬا ﻓﻴﻤﺎ أرى ﻣﻦ أﻛﱪ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ وﺑﺎﻷﺧﺺ ً ﻋﲆ ﺳﻬﻮﻟﺔ اﻟﺘﺄثير ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻠﻠﻮﻫﻤﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﻲ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ وﻫﻲ ﻣﻴﺎﻟﺔ ﻣﻴﻼ ﻇﺎﻫﺮًا إﱃ ﻋﺪم اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ . ﻳﻘﻮم ﺳﻠﻄﺎن اﻟﻔﺎﺗﺤين  وﺗﺒﻨﻲ ﻗﻮة الممالك ﻋﲆ ﺗﺨﻴﻞ اﻷﻣﻢ، وﻻ ﺗﻨﺠﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت إﻻ ﺑﺎﻟﺘﺄﺛير ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺘﺨﻴﻞ، وﻛﻞ ﺣﻮادث اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﺈﻳﺠﺎد اﻟﺒﻮذﻳﺔ وﺗﺸﻴﻴﺪ أرﻛﺎن المسيحية واﻹﺳﻼم وﻗﻴﺎم اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ، واﻟﺜﻮرة ﻓﻴﻤﺎ ﻣﴣ، وﻛﺈﻏﺎرة اﻷﻓﻜﺎر اﻻﺷﱰاﻛﻴﺔ المزعجة ﰲ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم … إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻗﺮﻳﺒﺔ أو ﺑﻌﻴﺪة ﻟﺘﺄﺛﺮات ﺷﺪﻳﺪة ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﻌﻠﺔ ﰲ أن ﺟﻤﻴﻊ أﻗﻄﺎب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻋﴫ، وﰲ ﻛﻞ أﻣﺔ ﺣﺘﻰ أﺷﺪﻫﻢ اﺳﺘﺒﺪادًا اﻋﺘﱪوا ﺗﺨﻴﻞ أﻣﻤﻬﻢ أﺳﺎﺳا ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﻮﺗﻬﻢ، وﻣﺎ ﻓﻜﺮوا ﻳﻮﻣًﺎ ﰲ أن ﻳﺤﻜﻤﻮا اﻟﻨﺎس ﺑﺪوﻧﻪ . ﻗﺎل ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن ﰲ ﻣﺠﻠﺲ ﺷﻮرى اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ: إﻧﻨﻲ أﺗﻤﻤﺖ ﺣﺮب اﻟﻔﻨﺪاﺋﻴين عندما ﺗﻜﺜﻠﻜﺖ ،واﺳﺘﻮليت ﻋﲆ ﻣﴫ؛ عندما أسلمت وﺗﻮﺟﺖ ﺑﺎﻟﻈﻔﺮ ﰲ ﺣﺮب إيطاليا ﻷﻧﻲ ﻗﻠﺖ ﺑﻌﺼﻤﺔ اﻟﺒﺎﺑﺎ وﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﺣﻜﻢ ﺷﻌﺒًﺎ ﻳﻬﻮدﻳٍّﺎ ﻷﻋﺪت بناء معبد سليمان . وﻳﻈﻬﺮ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﻣﻨﺬ اﻹﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ وﻗﻴﴫ من ﻋﻈﻤﺎء اﻟﺮﺟﺎل ﻣﻦ ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮن اﻟﺘأثير ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﺜﻞ ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن، ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﺘﺄثير ﻫﻤﻪ اﻟﺪاﺋﻢ ﻣﺎ ﻧﺴﻴﻪ ﰲ اﻧﺘﺼﺎراﺗﻪ وﺧﻄﺒﻪ وأﺣﺎدﻳﺜﻪ، وﻻ ﰲ ﻋﻤﻞ ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ، وﻛﺎن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ وﻫﻮ ﻋﲆ ﴎﻳﺮ ﻣﻮﺗﻪ . كما ان التأثير في عقول الجماعات لا ﻳﻜﻮن أﺑﺪًا ﺑﻤﺨﺎﻃﺒﺔ اﻹدراك واﻟﻌﻘﻞ، أﻋﻨﻲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺒﺤﺚ واﻟﺘﻘﺮﻳﺮ، ﺑﺪﻟﻴﻞ أن أﻧﻄﻮان ( ﻟﻢ ﻳﻬﻴﺞ ﻧﻔﻮس اﻷﻣﺔ ﻋﲆ ﻗﺎﺗﻞ ﻗﻴﴫ ﺑﻘﻮة اﻟﺒﺪﻳﻊ وﻋﻠﻢ اﻟﺒﻴﺎن، ﺑﻞ أﺛﺎرﻫﺎ عندما ﻗﺮأ وﺻﻴﺔ المقتول وأﺷﺎر ﺑﺎﻟﻘﻮم إﱃ ﺟﺜﺘﻪ . ان اﻟﺬي ﻳﺆﺛﺮ ﰲ ﺧﻴﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة أﺧﺎذة ﺟﻠﻴﺔ ﻣﺠﺮدة ﻋﻦ اﻟﴩح واﻟﺬﻳﻮل غير ﻣﺼﺤﻮﺑﺔ إﻻ ﺑﻤﺎ ﻓﻴها من ﻏﺮاﺑﺔ أو ﴎ ﻣﻜﻨﻮن، ﻛﺎﻧﺘﺼﺎر ﺑﺎﻫﺮ، أو ﻣﻌﺠﺰة ﺑﺎﻟﻐﺔ، أو ﺟﺮم ﻓﻈﻴﻊ، أو أﻣﻞ دوﻧﻪ اﻷﻣﻞ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺮﻣﻲ اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻠﺔ ﻋﲆ ﻋﻼﺗﻬﺎ وأن ﻻ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻨﻬﻬﺎ أﺑﺪًا؛ ﻷن ﻣﺎﺋﺔ ﺟﺮم صغير أو ﻣﺎﺋﺔ رزء صغير  ﻻ ﺗﺆﺛﺮ أﻗﻞ ﺗﺄﺛير ﰲ ﺗﺼﻮر اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت، ﻟﻜﻦ ﺟﺮﻣًﺎ واﺣﺪًا ﻛبيرا أو رزءًا كبيرا  واﺣﺪًا ﻳﺆﺛﺮ ﻓﻴﻪ أﺛﺮًا ﺷﺪﻳﺪًا وإن ﻗﻞ ﴐره ﻛﺜيرا ﻋﻦ ﴐر المئة الرزء ، و برهان ذلك اﻧﻘﻄﻌﺖ أﺧﺒﺎر إﺣﺪى ﺑﻮاﺧﺮ اﻷﻃﻼﻧﻄﻴﻖ ﻓﻈﻦ أﻧﻬﺎ ﻏﺮﻗﺖ، وﻛﺎن ﻟﺬﻟﻚ ﰲ ﺧﻴﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺗﺄثير  ﻛﺒير دام ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ أﻳﺎم، ودل اﻹﺣﺼﺎء اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻋﲆ ﻏﺮق 850 ﻣﺮﻛﺒًﺎ ﴍاﻋﻴٍّﺎ و203 ﻣﺮﻛﺐ ﺗﺠﺎري ﰲ ﺳﻨﺔ  1894 وﺣﺪﻫﺎ، ﺿﺎع ﻣﻌﻬﺎ ﻣﻦ اﻷرواح واﻷرزاق ﻣﺎ ﻻ ﺗﻘﺪر ﻗﻴﻤﺘﻪ وﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻮ ﻓﻘﺪت، وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺸﺘﻐﻞ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺬه اﻟﺨﺴﺎرة ﻟﺤﻈﺔ واﺣﺪة ، ﻧﺘﺞ ﻣﻦ ﻫﺬا أن اﻟﺤﻮادث ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت، ﺑﻞ المؤثر ﻫﻮ ﻛﻴﻔﻴﺔ وﻗﻮﻋﻬﺎ وﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻤﺜﻴﻠﻬﺎ، أﻋﻨﻲ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺻﻮرة أﺧﺎذة تملأ اﻟﻔﻜﺮ وﺗﻀﻴﻖ ﻋﻠﻴﻪ، وﻣﻦ ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﺆﺛﺮ ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﻘﻮدﻫﺎ . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...