Sunday 17 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 19

سنتحدث عن تأثير العقل في الجماعات . في الحقيقة ليس للعقل من تأثير على الجماعات ، و لهذا فإن الخطباء الذين عرفوا كيف تتأثر الجماعات إنما يخاطبون شعورها دون العقل ، لأنه لا سلطان لقواعد المنطق عليها فلأجل إقناع الجماعة ينبغي الوقوف أولا على المشاعر القائمة بها و التظاهر بموافقتها فيها ، ثم يحاول الخطيب تعديلها باستعمال مقارنات بسيطة عادية أمامها صور مؤثرة ، و ينبغي أن يكون مقتدرا على الرجوع القهقري متى وجد المقتضى ، و أن يتفرس في كل لحظة أثر كلامه في نفس سامعيه حتى يغير منه كلما مست الحاجة ، و هذه الضرورة التي تلجئ الخطيب الى سرعة تغيير الكلام بحسب الأثر الحاصل في نفس السامع ، هي التي تدلنا على ضعف الخطابة بالكلام المحضر من قبل ، لأن الخطيب يتبع في هذه الحالة سلسلة أفكاره لا حركة فكر سامعيه ، فلا يكون لكلامه أقل تأثير عندهم .

أما المناطقة فلأنهم تعودوا الاقتناع بالادلة المتسلسلة الدامغة لا يمكنهم الخروج عن عادتهم هذه في مخاطبة الجماعات ، لذلك يدهشهم على الدوام عدم تأثير استدلالهم ، قال بعض هؤلاء المنطقيين : إن للقياس المنطقي ، أعني الجمع بين الشئ و نظيره ، في الاستدلال نتيجة لازمة لا تتخلف عنه ، و هذا اللزوم يقتضي التسليم حتى من المادة لو أن فيها قدرة على أن تتمثل النظائر . و هو مسلم غير أنه لا فرق بين الجماعة و المادة في عدم إدراك النظائر ، بل في عدم القدرة على سماعها ، و من لم يصدق فليجرب أقناع الهمجي أو المتوحش أو الصبي بالحجة العقلية و الدليل المنطقي ، و هو يقتنع بضعف تأثير هذه الطريقة بإقناعهم . 

رب سائل يوجب الأسف أن العقل ليس هو الذي يهدي الجموع على الدوام ، نحن لا يسعنا القول به على الدوام ، بل نرى أنه لو كان الهدى للعقل لما اندفعت الانسانية في سبل المدنيات و الحضارة بالهمة التي أوجدتها الخيالات و الأوهام ، فليس لنا غنى عن الاوهام لانها نبات العرائز . 

كل شعب يحمل في كيانه العقلي نواميس مآله في الوجود ، و الظاهر أنه يسير محكوما بتلك النواميس ، و أنه ينقاد لحكمها بفعل فطرة لا مقدور له فيها حتى في نزعاته التي يرى أنها خارجة عن كل معقول ، و كذلك يظهر أحيانا أن الامم مدفوعة بقوى خفية مثل التي تجعل بذرة البلوط شجرة كأمها .

على أنه لا يسعنا أن نعرف الا قليلا من تلك القوى ، و ذلك بالبحث عنها في حركة تطور الامة العمومية لا في الحوادث الفردية التي يخال أنها سبب ذلك التطور ، إذ لو قصرنا النظر على هذه الحوادث لظهر أن التاريخ يتكون من مصادفات غير معقولة بالمرة ، فمما لا يصدقه العقل أن قبائل عربية تعيش في الصحراء تندلع من صحاريها و تبسط فتوحاتها على القسم الاكبر من الدنيا القديمة لتي عرفها اليونان و الرومان و تختط مملكة فاقت ضخامتها مملكة الاسكندر . و كذلك مما لا يتصوره العقل أن يقوم ضابط صغير في فرنسا (يقصد نابليون بونابرت) باحتلال معظم اوروبا و إخضاعها . 

إذن لندع العقل للحكماء و لا نطلبن منه أن يتدخل كثيرا في حكم الامم ، فما بالعقل ، بل على الرغم منه في غالب الاحيان تولدت مشاعر مثل الشرف و إنكار الذات و الايمان بالدين و حب المجد و الوطن ، و هي الصفات التي كانت و لا تزال أقوى دعائم المدنيات كلها . 

Saturday 16 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 18

نكمل في العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حديثنا سوف يكون عن التجارب . التجارب هي على التقريب الوسيلة الفعالة لتقرير الحقيقة في نفوس الجماعات ، و إزالة الأوهام التي عظم ضررها ، إنما ينبغي أن تكون عامة ما أمكن و أن تتكرر ، إذ تجارب جيل لا تؤثر غالبا في الجيل الذي يليه ، و لذلك لا تصلح الحوادث التاريخية للدليل ، بل تصلح لبيان أنه يجب تكرار التجارب من جيل الى جيل ليكوّن بعض الأثر و ليتوصل بها الى زعزعة الوهم المتأصل في نفوس الجماعة . 

و من المحقق أن مؤرخي العصور الآتية سيكثرون من ذكر حوادث هذا القرن ، و الذي تقدمه إحتوائها على تجارب لا مثيل لها ، لأن الناس لم يباشروا نظائرها في زمن من الأزمان . 

و أكبر الأحداث هي الثورة الفرنسية ، لانها تدل على أن الفرنسيين احتاجوا الى قتل عشرة ملايين من الرجال و إضرام نار الفتن و القلاقل في أوربا كلها مدة عشرين عاما ، لنعرف أن الأمة لا تخلق خلقا جديدا بإرشاد العقل وحده . حيث قام الفرنسيون بتجربتين منهكتين في خمسين عاما ليثبتوا من طريق التجربة أن القياصرة تكلف الامم التي تمجدها كلفة باهظة ، و مع أنها كانتا مشرقتين بالحجة على ما أرادوا يظهر أنهما لم تعتبرا كافيتين للأقناع ، و الأولى اقتضت بضعة ملايين من النفوس و غارة اجنبية على البلاد ، و الثانية أدت الى سلخ اقليم عنها و ضرورة إيجاد جيش مستديم مع ذلك ، و كانت الثالثة على الأبواب و هي واقعة لا محالة يوما من الايام ( يقصد بها الحرب العالمية الأولى و قد حدثت فعلا ) .

و بالجملة كان لا بد من تلك الحروب الهائلة التي استنزفت ثروة الامة الفرنسية لكي تقلع الامة كلها عن الوهم بأن الجيش الالماني العرمرم لم يكن الا عبارة عن حرس ملى لا خوف منه كما كانوا يوحون به عندنا منذ ثلاثين عاما . 

و لو أردنا أن نبرهن للأمم التي تعمل بمذهب حماية التجارة الوطنية لتقييد التجارة الاجنبية ، للزمنا القيام بتجارب ضارة بثروتنا مدة عشرين عاما ، و من السهل الاكثار من الامثلة على ما تقدم . 



ملاحظة : غوستاف لوبون عالم نفس اجتماعي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين و هو هنا يسرد الاحداث التي حصلت في فرنسا في تلك الفترة و ما قبلها و يحاول ان يستدل من خلالها على أفكاره .

Wednesday 13 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 17

نكمل في هذه المقالة ما ابتدأناه في بحثنا عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات ، و سنتحدث عن الاوهام . خضعت الجماعات منذ بزغ فجر المدنية لتأثير الاوهام ، فأقامت لموجديها أكبر التماثيل و الهياكل و المعابد ، و ما من حضارة تبلج صبحها على الارض الا و كانت تلك الملوك الهائلة في طليعة جيوشها . المعتقدات الدينية قديما و السياسية و الاجتماعية في هذه الايام هي التي شيدت هياكل الكلدان و مصر ، و أقامت المساجد و الكنائس في القرون الوسطى ، و هي التي قلبت القارة الاوربية من الرأس الى القدم في العصر الحديث و خاتمها مطبوع في جبين كل ما أبرزه العقل من المستحدثات الفنية أو السياسية أو الاجتماعية . يهدمها الانسان احيانا ، و لكنه يعاني جراء ذلك هول الانقلاب ، ثم هو محكوم عليه دائما أن يقيمها من جديد ، فلولا هي ما خرج الانسان من بربريته الاولى ، و لولاها لراح مسرعا يتخبط في اودية الخشونة و التوحش . نعم هي خيالات باطلة ، و هي بنات الاحلام ، و لكنها هي التي ساقت الامم الى ايجاد ما في الفنون من رفيع و جميل و ما في الحضارة من عظيم و جليل . 
قال ( دانيال روزيار ) :  لو أبيد ما في دور العبادات ، أو ما في المكتبات العمومية و كسرت فوق بلاط مماشيها جميع التحف و الآثار الفخمة التي ابدعتها الفنون و الاديان ، ما بقي شئ مما ولدته الاحلام ، و ما كانت الآلهة و الابطال و لا الشعراء إلا لتحدث في النفوس شيئا من الرجال و بعضا من الخيال ، إذ لا حياة للناس بغير الأمل و الرجاء . حمل العلم هذه الأمانة الثقيلة لفترة من الزمن ثم تغلبت عليه قوة الخيال ، لأنه أصبح غير قادر على الوعد بأدائها كلها عاجزا عن الكذب الى النهاية . 
اشتد ولع الفلاسفة في القرون الماضية بهدم الاوهام الدينية و السياسية و الاجتماعية التي عاش بها آباؤنا قرونا و أجيالا ، فلما ظهروا عليها كانوا قد سدوا أيضا منابع الرجاء و أغلقوا باب احتمال القضاء ، و برزت من خلف الخيال الذي خنقوه قوى الطبيعة العمياء الصماء التي لا تشفق على الضعفاء و لا تحنو على التعساء . 
سارت الفلسفة الى الامام شوطا بعيدا ، و لكنها مع تقدمها لم تهيئ للجماعات خيالا يلذها ، و الجماعات لا غنى لها عن الاوهام ، لذلك اندفعت وراء غريزتها و ذهبت الى تجار البلاغة الذين يبيعونها تجارة حاضرة مثلها كمثل الحشرة تدب حيثما يكون الضياء . إن الحقيقة لم تكن ابدا العامل الاكبر في تطور الامم ، و لكنه الباطل على الدوام . و إذا بحثت عن السبب في قوة مذهب الاشتراكية الذي أسسه العالم الاقتصادي الالماني كارل ماركس في القرن التاسع عشر و انتشر في القرن العشرين وجدته ما اشتمل عليه من الخيال الذي لا يزال حيا في العقول ، فهو يعظم و يتجسم مع تزاحم أنوار العلم التي تبرهن على فساده ، ذلك لأن قوته آتية من جهل دعاته بحقائق الأشياء جهلا كافيا يجرئهم على وعد الناس بالسعادة في الحياة ، فما كانت الجماعات في ظمأ الى الحقيقة طول حياتها ، و اذا تبدت أمامها و كانت تغضبها أعرضت و نأت و راحت تعبد الأوهام التي ترضى الامرة عليها لمن أضلها ، و الويل منها لمن هداها .

Friday 8 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 16

بدأنا في المقالة السابقة البحث عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حيث بدأنا بأول عامل و هو الصور و الالفاظ . و سوف نكمل في هذا العامل . من تأمل في لغة من اللغات وجد أن الالفاظ التي تتركب منها لا تتغير مع الزمان إلا ببطئ عظيم ، إنما الذي يتغير على الدوام هو الصور التي تلازم تلك الالفاظ و المعاني التي تؤديها ، و من هنا ترجمة لغة بتامامها الى لغة اخرى ضرب من المستحيل ، خصوصا اذا كانت لغة أمة ميتة . و نحن اذا ترجمنا كلمة من اليونانية القديمة أو اللاتينية أو السنسيكريتية الى اللغة الانكليزية مثلا ، فهذا ليس إلا إحلال الصور و المعاني المنتزعة من حياتنا الحاضرة محل صور و معارف مغايرة لها بالمرة ، و كانت معروفة لأمم لا نسبة بين حياتنا و حياتهم . فمثلا كلمة الحرية لا يوجد هنالك شبه بين المعنى المراد منها في اليونان القديمة و المعنى المراد منها في وقتنا الحاضر . و كان معنى كلمة الوطن مختلف كذلك ، فلقد كانت كلمة الوطن تشير الى المدينة ، سواء كانت تلك المدينة أثينا او سبارطا ، و لم تكن تشير الى البلاد اليونانية مجتمعة . فلقد كانت هذه المدن اليونانية متباغضة متقاتلة على الدوام . و ما اكثر الالفاظ التي تغير معناها تغيرا كليا من جيل الى جيل ، و لم نعد ندرك معانيها الاولى الا مع الجهد و المشقة ، و لقد أصاب القائل بوجوب الاطلاع على كتب كثيرة للوقوف على ما كان يفهمه أجدادنا من بعض الالفاظ مثل ملك و عائلة ملكية ، فما بالك بغيرها مما له معنى دقيق . نتج من هذا أن معاني الالفاظ غير ثابتة ، و أنها عرضية وقتية تتغير بتغير الأجيال و تختلف باختلاف الامم ، فإذا أردنا أن نؤثر في الجماعات لزمنا أن نعرف معنى الالفاظ عندها وقت مخاطبتها لا معناها القديم ، و لا الذي يفهمه منها من يختلف معها في الفكر و المعقول . و من أجل هذا متى تمت الانقلابات السياسية و استقرت معتقدات مكان اخرى و تمكن بذلك نفور الجماعات من الصور التي تحضرها الالفاظ ، وجب على رجال السياسة الجديرين بهذا الاسم أن يسارعوا الى تغيير تلك الالفاظ من دون ان يتعرضوا للمسميات ، لأن هذه مرتبطة بمزاج القوم الموروث ارتباطا ليس من السهل تغييره . 

Thursday 7 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 15

فرغنا من البحث في العوامل البعيدة التحضيرية التي تهيئ نفوس الجماعات لظهور بعض الاميال و الافكار . بقي علينا ان نبحث في العوامل القريبة ، اي التي تؤثر فيها مباشرة . سنبحث في هذه المقالة أول عامل من العوامل القريبة و هو عامل الصور و الالفاظ و الجمل . أن الجماعات تتأثر على الاخص بالصور . و ليست الصور ممكنة في كل وقت ، لكن من السهل استحضارها في الذهن بالحذق في استعمال الالفاظ و الجمل ، و متى كان المستعمل لهما بارعا فلها قوة السحر على الجماعات ، فهي التي تثير في نفس الجماعات أشد صواعق الغضب ، و هي التي تسكنها اذا جاشت ، و لو جمعت عظام الذين ذهبوا ضحية الالفاظ و الجمل لأمكن أن يقام منها هرم أرفع من هرم خيوبس القديم. السر في تأثير الالفاظ للصور التي تحضر في الذهن بواسطتها ، و ليس لذلك التأثير ارتباط بمعانيها الحقيقية ، بل الغالب أن أشدها تأثيرا ما كان معناه غير واضح تماما . مثال ذلك كلمات : ديمقراطية ، اشتراكية ، مساواة ، حرية ... و هكذا مما أبهم معناه . و الكل يسلم أن لها سلطانا ينساب في النفوس كأنها اشتملت على حل المسائل الاجتماعية كلها ، و فيها تتمثل الاميال اللاشعورية على اختلافها و الامل في تحقيقها . لبعض الالفاظ و الجمل سلطان لا يضعفه العقل و لا يؤثر فيه الدليل ، الفاظ و جمل ينطقها المتكلم خاشعا أمام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين و تعنو الوجوه لها احتراما ، و كثير يعتقدون ان فيها قوة الهية . الفاظ و جمل تثير في النفوس صورا لا كيف لها و لا انحصار ، محفوفة بالإكبار و الإعظام ، ابهامها و غموضها يزيد في قوتها الخفية ، فهي آلهة لا تدركها الابصار قد احتجبت خلف المظلة التي ترتعد لهيبتها فرائص العابد إذا تقدم نحوها . و لما كانت الصور التي تستحضرها الالفاظ مستقلة عن معانيها كانت مختلفة باختلاف الاجيال و الامم و ان اتحدت صيغتها ، و لبعض الالفاظ صور تتلوها على الأثر كأن الكلمة منبه اذا تحرك برزت صورته . و من الالفاظ ما هو مجرد عن قوة استحضار صورة ما ، و منها ما تكون له تلك القوة أولا ، ثم تبلى بالاستعمال فتفقدها تماما و تصير اصواتا فارغة تنحصر فائدتها في إعفاء المتكلم بها من التفكر و الامعان . و من السهل على الانسان إذا حفظ في صغره قليلا من الالفاظ و شيئا من الجمل المصطلح عليها أن يجتاز الحياة بها من دون الحاجة الى اجهاد النفس بالفكر في امر من امور الدنيا . 

Friday 1 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 14

نكمل في العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها . و سنتناول في هذه المقالة التربية و التعليم . لكل عصر أفكار تسود فيه و إن كانت في الغالب من قبيل الخيالات . و من الافكار السائدة في هذا العصر أن للتعليم قدرة على تغيير الرجال تغييرا محسوسا ، و أن نتيجته التي لا يشكون فيها هي اصلاحهم ، بل ايجاد المساواة بينهم . ذكروا ذلك و كرروه فصار احد الافكار الثابتة ، و أصبح التعرض له من أصعب الامور ، كما كان يصعب التعرض لسلطان الكنيسة في السابق . نعم مما لا يشك فيه ان التعليم إذا حسنت طرائقه ينتج نتائج عملية ذات فائدة كبيرة ، فإذا هو لم يرفع درجة التهذيب و يؤثر في رقي الاخلاق ، فإنه ينمي الكفاءات الفنية . و لكن لسوء الحظ فإن التربية اذا ساءت طرائقها فيكون ضررها أكبر من نفعها . و أول هذه الطرائق الخاطئة في التعليم ما يحكم علم النفس عليها بالفساد . ذلك أنهم قالوا إن الحفظ عن ظهر قلب يزيد الذكاء و يقوي الفطنة ، ثم انتقلوا من هذا الى وجوب الاكثار من الحفظ ما استطاعوا ، و صار المتعلم في المدرسة الابتدائية و الثانوية و العالية حتى الذي يتلقى علوم الاستاذية لا يعمل إلا للحفظ ، و هو في ذلك كله لا يدرب مداركه و لا يمرن ملكة الاقدام على العمل من نفسه ، لان التعليم في نظره ينحصر في القاء المحفوظ و في الخضوع . و لكن لو كان ضرر هذه التربية قاصرا على عدم فائدتها لاكتفينا بالعطف على اولئك الاطفال المساكين الذين يحفظون تلك الكتب المدرسية المملة ، بدلا من أن يتعلموا أشياء اخرى نافعة ، لكن ضررها اكبر من ذلك ، فهي تولد في نفس المتعلم سآمة شديدة من حالته التي هو عليها بمقتضى نشأته ، و رغبة شديدة في الانسلاخ عنها ، فلا الصانع يبغي البقاء على صنعته و لا الفلاح يميل الى الدوام في فلاحته . و أقل الناس في الطبقة الوسطى لا يختار لابنائه عملا إلا في وظائف الحكومة . و المدرسة لا تربي رجالا قادرين على الحياة ، و انما تخرج عمالا لوظائف ينجح فيها الانسان دون أن يهتم بقيادة نفسه و لا أن يتقدم الى عمل من ذاته . ان الاكتساب السطحي لتلك المعارف الكثيرة و أجادة حفظ و استظهار تلك الكتب المدرسية المملة لا يرقي فينا ملكة العقل . أما التعليم الفني العملي هو الذي يربي فينا ملكة العقل و الملاحظة .

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 13

تناولنا في آخر المقالات العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها ، حيث تناولنا في المقالة السابقة عامل الزمان و سنكمل في بقية العوامل . في هذه المقالة سنتناول عامل الانظمة السياسية و الاجتماعية . لا يزال الناس يذهبون الى ان الانظمة تقوم و تعدل ما اعوج من الهيئة الاجتماعية ، و ان تقدم الامم أثر من آثار اتقان تلك الانظمة و اصلاح الحكومات ، و انه يمكن احداث الانقلابات الاجتماعية بواسطة الاوامر و القوانين . ذاك وهم تأصل في الافكار لما تبدده التجارب على تكرارها ، و قد ضاعت جهود الفلاسفة و المؤرخين سدى في بيان فساده و بطلانه . ان الانظمة هي بنات الافكار و المشاعر و الاخلاق ، و ان الافكار و المشاعر و الاخلاق لا تتغير بتغيير القوانين ، و ان الامم لا تختار نظامها كما تشتهي ، كما انها لا تملك اختيار لون اعينها و شعر رؤوسها ، بل ان الانظمة و الحكومات هي ثمرة الشعب التي هي فيه ، فليست هي التي تخلق زمانها ، و لكنها هي التي أوجدها زمانها . و كما ان كل نظام لم يستقر الا بعد قرون عدة كذلك ينبغي لتغييره قرون عدة . و ليست للانظمة قيمة نوعية في ذاتها ، فهي لا تكون حسنة لذاتها و لا هي رديئة لذاتها . و ان ما صلح منها لامة في زمان من الممكن ان يكون مضرا في امة اخرى . لذلك كان من المحقق ان الامة لا تستطيع ان تغير انظمتها كما تشاء ، نعم بإمكانها ان تبدل أسماءها بواسطة الثورات العنيفة و الاضطرابات القوية ، لكن اللب يبقى كما كان . أما الاسماء فهي عناوين لا يلتفت اليها المؤرخ الذي ينقب عن حقائق الاشياء . لذلك كان من العبث جدا اضاعة الزمن في خلق نظام جديد من جديد ، فلا فائدة من ذلك ، فالحاجة و الزمان هما الكفيلان بإعداده اذا عقل الناس و تركوا هذين العاملين يعملان . فالقوانين في كل أمة منتزعة من روحها ، و أنه لا يمكن لذلك تغييرها عنوة و قسرا . يجوز الجدل فلسفيا في هل حصر السلطة و ارجاعها في النهاية الى يد واحدة أفضل من تفريقها ، أم العكس أولى . لكن إذا رأينا امة مؤلفة من عناصر مختلفة قضت الف عام فوصلت بعد ذلك الى حصر السلطة و جمعها ، و رأينا من جهة أخرى أن ثورة عظيمة جائت لتحطم كل نظام ولده الزمان قد احترمت هذا الحصر و بالغت فيه ، كان لنا ان نقول : ان هذا النظام هو ابن الضرورة التي لا مفر منها ، و انه شرط من شروط حياة تلك الامة ، و أن نرثي لحال اولئك السياسيين الذين يذهبون الى وجوب ابطال ذلك النظام . و لو أن الصدفة ساعدتهم على نيل ما يبتغون لكانت نتيجة ذلك قيام حرب أهلية يستطير شررها و العودة عاجلا ام آجلا الى حصر السلطة بأشد مما هي عليه . نتج من ذلك أن التأثير الحقيقي في روح الجماعات لا يكون عن طريق الانظمة . و أن الذي يحكم الامم انما هو اخلاقها . و كل نظام لا يندمج مع تلك الاخلاق و يمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار و هو ستار لا يدوم . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...