Tuesday 19 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 21

سنكمل في تأثير القادة في الجماعات . كان عمل قادة الجموع على الدوام خلق الاعتقاد بالنفوس لا فرق بين أن يكون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا ، و لا أن يكون محله عملا أو إنسانا أو رأيا . بهذا كان تأثيرهم عظيما جدا ، لأن قوة الايمان أكبر قوة في تصرف الانسان ، و قد صدق الانجيل في قوله أنه يزحزح الجبال عن مواضعها ، فمن كان مؤمنا زادت قوته عشر أمثالها ، و الذين قاموا بأكبر حوادث التاريخ أفراد من الضعفاء المؤمنين الذين لم يكن لهم من الحول الا الايمان ، و ليس المستبدون و لا الفلاسفة و لا أهل البأس على الاخص هم الذين أقاموا الأديان الكبرى التي سادت الدنيا ، و اختطوا الممالك الشاسعة التي امتدت فوق السطحين ( يقصد اليابسة و الماء ) .

لا يلبث الانسان أن يقع تحت حكم قائد يتبعه كلما خرج عن العزلة الى الجماعة ، ذلك أمر واقع في جميع الطبقات أرقاها و ادناها ، فأما افراد الطبقة العامة فإن الواحد منهم متى خرج عن حرفته أو مهنته لا تجد عنده تفكيرا واضحا في أمر من الامور .

من لوازم السلطة أن تكون مستبدة ، على أن استبدادهم هو علة سيادتهم . و قد بلغ ظمأ الجماعات أنها تخضع بفطرتها لكل من ادعى السيادة عليها . تنقسم القادة الى فريقين ممتازين ، فقادة أولو عزم و إرادة قوية و لكنها وقتية ، و قادة ذوو إرادة جمعت بين القوة و الدوام و هؤلاء قليلون ، و الفريق الأول أصحاب حدة و نزق و شجاعة و إقدام ، و هم على الأخص نافعون في تنفيذ ما دبر أو كسب الجموع بلا خوف من الخطر ، و جعل الجبان بطلا مغوارا  .

عزيمة أولئك القادة على قوتها قلما تبقى بعد زوال السبب الذي دعا إليها ، و كثيرا ما يبرهن الذين تجملوا بها على ضعف مدهش متى عادوا الى حياتهم الاعتيادية ، فتراهم لا يستطيعون التصرف في أصغر الحوادث مع كونهم ماهرين في تصريف غيرهم ، أولئك قادة لا يمكنهم القيام بوظائفهم إلا إذا كانوا أنفسهم مقودين ، و كان لهم مهيج على الدوام ، و استولت عليهم يد أو فكر من الأفكار و ساروا في طريق مرسوم من قبل . أما الفريق الثاني من القادة و هم ذوو الإرادة الثابتة ، فإن تأثيرهم أعظم بكثير و إن كانوا أقل ظهورا في الشكل ، و هم الذين نبغ من بينهم أصحاب الأعمال الكبيرة كالقديس بولس و محمد و كريستوفر كولومبوس و دولسبس و سواء كان قواد هذا الفريق من الاذكياء أو لا لهم الدنيا أبد الآبدين ، لأن الإرادة الثابتة التي اتصفوا بها ملكة نادرة الوجود لكنها قوية يخضع لها كل شئ . 

إن الكتاب الذي يضم سيرة أولئك القادة العظماء لا يكون فيه عدد كثير من الاسماء ، لكن تلك الاسماء هي التي كانت على هامة أكبر حوادث الحضارة و التاريخ . 

 

Monday 18 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 20

سنتحدث عن قادة الجماعات و طرقهم في الاقناع . ما اجتمع عدد من الاحياء سواء كان من الحيوان أو من بني الانسان الا جعل له بمقتضى الفطرة رئيسا . و الرئيس في الجماعات البشرية عبارة عن قائد في الغالب الا أن له بذلك شأنا كبيرا تجتمع الافكار و تتحد حول ارادته ، و هو الركن الأول الذي يقوم به نظام وحدة الجماعات و يهيئها لأن تصير طائفة خاصة . 
و العادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودا : أعني أنه كان مسحورا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه الا ما كان منها ، و ان كل ما يخالفها باطل ، كما جرى للزعيم ( روبسبير ) أسكرته أفكار ( روسو ) فقام يدعو اليها ، و استعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها . 
ليس القادة غالبا من اهل الرأي و الصحافة ، بل هم من أهل العمل و الإقدام ، و هم قليلوا التبصر . على أن ليس في قدرتهم التبصر ، لأن التأمل يؤدي غالبا الى الشك ثم الى السكون ، و هم يخرجون عادة من بين ذوي الاعصاب المريضة المتهوسين الذين اضطربت قواهم العقلية الى النصف ، و أمسوا على شفا جرف الجنون ، لا ينفع الدليل على فساد ما اعتقدوا كيفما كان معتقدهم باطلا ، و لا تثنيهم حجة عن طلب ما قصدوا بالغا منه الخطل ما بلغ ، و لا يؤثر فيهم الاحتقار و الاضطهاد ، بل يزيدهم تهوسا و عنادا ، حتى أنهم يفقدون غريزة المحافظة على النفس فلا يبتغون في الغالب أجرا على عملهم إلا أن يكونوا من ضحاياه . تزيد شدة اعتقادهم في قوة تأثير أقوالهم ، و الجموع تصغي دائما الى قول ذي الارادة القوية الذي يعرف كيف يتسلط عليها . و متى ما صار الناس جماعة فقدوا ارادتهم و التفوا كلهم حول من كان له شئ منها . 

وجد القادة في الأمم على الدوام غير أنهم ليسوا جميعا من أهل الاعتقاد الصادق الذي يصير به المرء رسولا في قومه ، بل في الغالب قوالون سوفسطائيون الا وراء منافعهم الذاتية فيتملقون ذوي المشاعر السافلة ليكتسبوا رضاهم و قد يكون النفوذ الذي ينالونه بهذه الوسائل كبيرا جدا إلا أنه سريع الزوال . أما أصحاب المعتقدات الصحيحة الذين تمكنوا من نفوس الجماعات و حركوها مثل ( بطرس الراهب ) و (لوثر) و ( سافونارول ) و رجال الثورة الفرنسية و غيرهم ، فإنهم لم يتمكنوا من خلب العقول و اجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه . و بذلك توصلوا الى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس ، و هي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله . 

Sunday 17 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 19

سنتحدث عن تأثير العقل في الجماعات . في الحقيقة ليس للعقل من تأثير على الجماعات ، و لهذا فإن الخطباء الذين عرفوا كيف تتأثر الجماعات إنما يخاطبون شعورها دون العقل ، لأنه لا سلطان لقواعد المنطق عليها فلأجل إقناع الجماعة ينبغي الوقوف أولا على المشاعر القائمة بها و التظاهر بموافقتها فيها ، ثم يحاول الخطيب تعديلها باستعمال مقارنات بسيطة عادية أمامها صور مؤثرة ، و ينبغي أن يكون مقتدرا على الرجوع القهقري متى وجد المقتضى ، و أن يتفرس في كل لحظة أثر كلامه في نفس سامعيه حتى يغير منه كلما مست الحاجة ، و هذه الضرورة التي تلجئ الخطيب الى سرعة تغيير الكلام بحسب الأثر الحاصل في نفس السامع ، هي التي تدلنا على ضعف الخطابة بالكلام المحضر من قبل ، لأن الخطيب يتبع في هذه الحالة سلسلة أفكاره لا حركة فكر سامعيه ، فلا يكون لكلامه أقل تأثير عندهم .

أما المناطقة فلأنهم تعودوا الاقتناع بالادلة المتسلسلة الدامغة لا يمكنهم الخروج عن عادتهم هذه في مخاطبة الجماعات ، لذلك يدهشهم على الدوام عدم تأثير استدلالهم ، قال بعض هؤلاء المنطقيين : إن للقياس المنطقي ، أعني الجمع بين الشئ و نظيره ، في الاستدلال نتيجة لازمة لا تتخلف عنه ، و هذا اللزوم يقتضي التسليم حتى من المادة لو أن فيها قدرة على أن تتمثل النظائر . و هو مسلم غير أنه لا فرق بين الجماعة و المادة في عدم إدراك النظائر ، بل في عدم القدرة على سماعها ، و من لم يصدق فليجرب أقناع الهمجي أو المتوحش أو الصبي بالحجة العقلية و الدليل المنطقي ، و هو يقتنع بضعف تأثير هذه الطريقة بإقناعهم . 

رب سائل يوجب الأسف أن العقل ليس هو الذي يهدي الجموع على الدوام ، نحن لا يسعنا القول به على الدوام ، بل نرى أنه لو كان الهدى للعقل لما اندفعت الانسانية في سبل المدنيات و الحضارة بالهمة التي أوجدتها الخيالات و الأوهام ، فليس لنا غنى عن الاوهام لانها نبات العرائز . 

كل شعب يحمل في كيانه العقلي نواميس مآله في الوجود ، و الظاهر أنه يسير محكوما بتلك النواميس ، و أنه ينقاد لحكمها بفعل فطرة لا مقدور له فيها حتى في نزعاته التي يرى أنها خارجة عن كل معقول ، و كذلك يظهر أحيانا أن الامم مدفوعة بقوى خفية مثل التي تجعل بذرة البلوط شجرة كأمها .

على أنه لا يسعنا أن نعرف الا قليلا من تلك القوى ، و ذلك بالبحث عنها في حركة تطور الامة العمومية لا في الحوادث الفردية التي يخال أنها سبب ذلك التطور ، إذ لو قصرنا النظر على هذه الحوادث لظهر أن التاريخ يتكون من مصادفات غير معقولة بالمرة ، فمما لا يصدقه العقل أن قبائل عربية تعيش في الصحراء تندلع من صحاريها و تبسط فتوحاتها على القسم الاكبر من الدنيا القديمة لتي عرفها اليونان و الرومان و تختط مملكة فاقت ضخامتها مملكة الاسكندر . و كذلك مما لا يتصوره العقل أن يقوم ضابط صغير في فرنسا (يقصد نابليون بونابرت) باحتلال معظم اوروبا و إخضاعها . 

إذن لندع العقل للحكماء و لا نطلبن منه أن يتدخل كثيرا في حكم الامم ، فما بالعقل ، بل على الرغم منه في غالب الاحيان تولدت مشاعر مثل الشرف و إنكار الذات و الايمان بالدين و حب المجد و الوطن ، و هي الصفات التي كانت و لا تزال أقوى دعائم المدنيات كلها . 

Saturday 16 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 18

نكمل في العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حديثنا سوف يكون عن التجارب . التجارب هي على التقريب الوسيلة الفعالة لتقرير الحقيقة في نفوس الجماعات ، و إزالة الأوهام التي عظم ضررها ، إنما ينبغي أن تكون عامة ما أمكن و أن تتكرر ، إذ تجارب جيل لا تؤثر غالبا في الجيل الذي يليه ، و لذلك لا تصلح الحوادث التاريخية للدليل ، بل تصلح لبيان أنه يجب تكرار التجارب من جيل الى جيل ليكوّن بعض الأثر و ليتوصل بها الى زعزعة الوهم المتأصل في نفوس الجماعة . 

و من المحقق أن مؤرخي العصور الآتية سيكثرون من ذكر حوادث هذا القرن ، و الذي تقدمه إحتوائها على تجارب لا مثيل لها ، لأن الناس لم يباشروا نظائرها في زمن من الأزمان . 

و أكبر الأحداث هي الثورة الفرنسية ، لانها تدل على أن الفرنسيين احتاجوا الى قتل عشرة ملايين من الرجال و إضرام نار الفتن و القلاقل في أوربا كلها مدة عشرين عاما ، لنعرف أن الأمة لا تخلق خلقا جديدا بإرشاد العقل وحده . حيث قام الفرنسيون بتجربتين منهكتين في خمسين عاما ليثبتوا من طريق التجربة أن القياصرة تكلف الامم التي تمجدها كلفة باهظة ، و مع أنها كانتا مشرقتين بالحجة على ما أرادوا يظهر أنهما لم تعتبرا كافيتين للأقناع ، و الأولى اقتضت بضعة ملايين من النفوس و غارة اجنبية على البلاد ، و الثانية أدت الى سلخ اقليم عنها و ضرورة إيجاد جيش مستديم مع ذلك ، و كانت الثالثة على الأبواب و هي واقعة لا محالة يوما من الايام ( يقصد بها الحرب العالمية الأولى و قد حدثت فعلا ) .

و بالجملة كان لا بد من تلك الحروب الهائلة التي استنزفت ثروة الامة الفرنسية لكي تقلع الامة كلها عن الوهم بأن الجيش الالماني العرمرم لم يكن الا عبارة عن حرس ملى لا خوف منه كما كانوا يوحون به عندنا منذ ثلاثين عاما . 

و لو أردنا أن نبرهن للأمم التي تعمل بمذهب حماية التجارة الوطنية لتقييد التجارة الاجنبية ، للزمنا القيام بتجارب ضارة بثروتنا مدة عشرين عاما ، و من السهل الاكثار من الامثلة على ما تقدم . 



ملاحظة : غوستاف لوبون عالم نفس اجتماعي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين و هو هنا يسرد الاحداث التي حصلت في فرنسا في تلك الفترة و ما قبلها و يحاول ان يستدل من خلالها على أفكاره .

Wednesday 13 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 17

نكمل في هذه المقالة ما ابتدأناه في بحثنا عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات ، و سنتحدث عن الاوهام . خضعت الجماعات منذ بزغ فجر المدنية لتأثير الاوهام ، فأقامت لموجديها أكبر التماثيل و الهياكل و المعابد ، و ما من حضارة تبلج صبحها على الارض الا و كانت تلك الملوك الهائلة في طليعة جيوشها . المعتقدات الدينية قديما و السياسية و الاجتماعية في هذه الايام هي التي شيدت هياكل الكلدان و مصر ، و أقامت المساجد و الكنائس في القرون الوسطى ، و هي التي قلبت القارة الاوربية من الرأس الى القدم في العصر الحديث و خاتمها مطبوع في جبين كل ما أبرزه العقل من المستحدثات الفنية أو السياسية أو الاجتماعية . يهدمها الانسان احيانا ، و لكنه يعاني جراء ذلك هول الانقلاب ، ثم هو محكوم عليه دائما أن يقيمها من جديد ، فلولا هي ما خرج الانسان من بربريته الاولى ، و لولاها لراح مسرعا يتخبط في اودية الخشونة و التوحش . نعم هي خيالات باطلة ، و هي بنات الاحلام ، و لكنها هي التي ساقت الامم الى ايجاد ما في الفنون من رفيع و جميل و ما في الحضارة من عظيم و جليل . 
قال ( دانيال روزيار ) :  لو أبيد ما في دور العبادات ، أو ما في المكتبات العمومية و كسرت فوق بلاط مماشيها جميع التحف و الآثار الفخمة التي ابدعتها الفنون و الاديان ، ما بقي شئ مما ولدته الاحلام ، و ما كانت الآلهة و الابطال و لا الشعراء إلا لتحدث في النفوس شيئا من الرجال و بعضا من الخيال ، إذ لا حياة للناس بغير الأمل و الرجاء . حمل العلم هذه الأمانة الثقيلة لفترة من الزمن ثم تغلبت عليه قوة الخيال ، لأنه أصبح غير قادر على الوعد بأدائها كلها عاجزا عن الكذب الى النهاية . 
اشتد ولع الفلاسفة في القرون الماضية بهدم الاوهام الدينية و السياسية و الاجتماعية التي عاش بها آباؤنا قرونا و أجيالا ، فلما ظهروا عليها كانوا قد سدوا أيضا منابع الرجاء و أغلقوا باب احتمال القضاء ، و برزت من خلف الخيال الذي خنقوه قوى الطبيعة العمياء الصماء التي لا تشفق على الضعفاء و لا تحنو على التعساء . 
سارت الفلسفة الى الامام شوطا بعيدا ، و لكنها مع تقدمها لم تهيئ للجماعات خيالا يلذها ، و الجماعات لا غنى لها عن الاوهام ، لذلك اندفعت وراء غريزتها و ذهبت الى تجار البلاغة الذين يبيعونها تجارة حاضرة مثلها كمثل الحشرة تدب حيثما يكون الضياء . إن الحقيقة لم تكن ابدا العامل الاكبر في تطور الامم ، و لكنه الباطل على الدوام . و إذا بحثت عن السبب في قوة مذهب الاشتراكية الذي أسسه العالم الاقتصادي الالماني كارل ماركس في القرن التاسع عشر و انتشر في القرن العشرين وجدته ما اشتمل عليه من الخيال الذي لا يزال حيا في العقول ، فهو يعظم و يتجسم مع تزاحم أنوار العلم التي تبرهن على فساده ، ذلك لأن قوته آتية من جهل دعاته بحقائق الأشياء جهلا كافيا يجرئهم على وعد الناس بالسعادة في الحياة ، فما كانت الجماعات في ظمأ الى الحقيقة طول حياتها ، و اذا تبدت أمامها و كانت تغضبها أعرضت و نأت و راحت تعبد الأوهام التي ترضى الامرة عليها لمن أضلها ، و الويل منها لمن هداها .

Friday 8 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 16

بدأنا في المقالة السابقة البحث عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حيث بدأنا بأول عامل و هو الصور و الالفاظ . و سوف نكمل في هذا العامل . من تأمل في لغة من اللغات وجد أن الالفاظ التي تتركب منها لا تتغير مع الزمان إلا ببطئ عظيم ، إنما الذي يتغير على الدوام هو الصور التي تلازم تلك الالفاظ و المعاني التي تؤديها ، و من هنا ترجمة لغة بتامامها الى لغة اخرى ضرب من المستحيل ، خصوصا اذا كانت لغة أمة ميتة . و نحن اذا ترجمنا كلمة من اليونانية القديمة أو اللاتينية أو السنسيكريتية الى اللغة الانكليزية مثلا ، فهذا ليس إلا إحلال الصور و المعاني المنتزعة من حياتنا الحاضرة محل صور و معارف مغايرة لها بالمرة ، و كانت معروفة لأمم لا نسبة بين حياتنا و حياتهم . فمثلا كلمة الحرية لا يوجد هنالك شبه بين المعنى المراد منها في اليونان القديمة و المعنى المراد منها في وقتنا الحاضر . و كان معنى كلمة الوطن مختلف كذلك ، فلقد كانت كلمة الوطن تشير الى المدينة ، سواء كانت تلك المدينة أثينا او سبارطا ، و لم تكن تشير الى البلاد اليونانية مجتمعة . فلقد كانت هذه المدن اليونانية متباغضة متقاتلة على الدوام . و ما اكثر الالفاظ التي تغير معناها تغيرا كليا من جيل الى جيل ، و لم نعد ندرك معانيها الاولى الا مع الجهد و المشقة ، و لقد أصاب القائل بوجوب الاطلاع على كتب كثيرة للوقوف على ما كان يفهمه أجدادنا من بعض الالفاظ مثل ملك و عائلة ملكية ، فما بالك بغيرها مما له معنى دقيق . نتج من هذا أن معاني الالفاظ غير ثابتة ، و أنها عرضية وقتية تتغير بتغير الأجيال و تختلف باختلاف الامم ، فإذا أردنا أن نؤثر في الجماعات لزمنا أن نعرف معنى الالفاظ عندها وقت مخاطبتها لا معناها القديم ، و لا الذي يفهمه منها من يختلف معها في الفكر و المعقول . و من أجل هذا متى تمت الانقلابات السياسية و استقرت معتقدات مكان اخرى و تمكن بذلك نفور الجماعات من الصور التي تحضرها الالفاظ ، وجب على رجال السياسة الجديرين بهذا الاسم أن يسارعوا الى تغيير تلك الالفاظ من دون ان يتعرضوا للمسميات ، لأن هذه مرتبطة بمزاج القوم الموروث ارتباطا ليس من السهل تغييره . 

Thursday 7 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 15

فرغنا من البحث في العوامل البعيدة التحضيرية التي تهيئ نفوس الجماعات لظهور بعض الاميال و الافكار . بقي علينا ان نبحث في العوامل القريبة ، اي التي تؤثر فيها مباشرة . سنبحث في هذه المقالة أول عامل من العوامل القريبة و هو عامل الصور و الالفاظ و الجمل . أن الجماعات تتأثر على الاخص بالصور . و ليست الصور ممكنة في كل وقت ، لكن من السهل استحضارها في الذهن بالحذق في استعمال الالفاظ و الجمل ، و متى كان المستعمل لهما بارعا فلها قوة السحر على الجماعات ، فهي التي تثير في نفس الجماعات أشد صواعق الغضب ، و هي التي تسكنها اذا جاشت ، و لو جمعت عظام الذين ذهبوا ضحية الالفاظ و الجمل لأمكن أن يقام منها هرم أرفع من هرم خيوبس القديم. السر في تأثير الالفاظ للصور التي تحضر في الذهن بواسطتها ، و ليس لذلك التأثير ارتباط بمعانيها الحقيقية ، بل الغالب أن أشدها تأثيرا ما كان معناه غير واضح تماما . مثال ذلك كلمات : ديمقراطية ، اشتراكية ، مساواة ، حرية ... و هكذا مما أبهم معناه . و الكل يسلم أن لها سلطانا ينساب في النفوس كأنها اشتملت على حل المسائل الاجتماعية كلها ، و فيها تتمثل الاميال اللاشعورية على اختلافها و الامل في تحقيقها . لبعض الالفاظ و الجمل سلطان لا يضعفه العقل و لا يؤثر فيه الدليل ، الفاظ و جمل ينطقها المتكلم خاشعا أمام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين و تعنو الوجوه لها احتراما ، و كثير يعتقدون ان فيها قوة الهية . الفاظ و جمل تثير في النفوس صورا لا كيف لها و لا انحصار ، محفوفة بالإكبار و الإعظام ، ابهامها و غموضها يزيد في قوتها الخفية ، فهي آلهة لا تدركها الابصار قد احتجبت خلف المظلة التي ترتعد لهيبتها فرائص العابد إذا تقدم نحوها . و لما كانت الصور التي تستحضرها الالفاظ مستقلة عن معانيها كانت مختلفة باختلاف الاجيال و الامم و ان اتحدت صيغتها ، و لبعض الالفاظ صور تتلوها على الأثر كأن الكلمة منبه اذا تحرك برزت صورته . و من الالفاظ ما هو مجرد عن قوة استحضار صورة ما ، و منها ما تكون له تلك القوة أولا ، ثم تبلى بالاستعمال فتفقدها تماما و تصير اصواتا فارغة تنحصر فائدتها في إعفاء المتكلم بها من التفكر و الامعان . و من السهل على الانسان إذا حفظ في صغره قليلا من الالفاظ و شيئا من الجمل المصطلح عليها أن يجتاز الحياة بها من دون الحاجة الى اجهاد النفس بالفكر في امر من امور الدنيا . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...