Saturday 23 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 23

قد بينا أنه متى ما كثر تكرار امر معين و أجمع عليه المكررون ، انتقل هذا الأمر بالعدوى . و لا يجب في العدوى وجود أفراد كثيرين في مكان واحد ، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها . 
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه الى التقليد ، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته ، و القليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس ، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان ، و لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها ، و إنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع ، و لذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم ألا نادرا لبعد البون بينهما و من هنا قل تأثير الأوربي في الشرقي ، لأن الخلف شديد بين الرجلين .
يتشابه أهل كل عصر في أمة بتأثير الزمن و تبادل التقليد ، حتى الذين يخيل أنهم متفاوتون ، كالحكماء و العلماء و الأدباء ، فإنك ترى على أفكارهم و ما يكتبون صبغة عشيرة واحدة تدلك في الحال على أنهم أبناؤ عصر واحد ، و لا يلزم أن يطول الحديث مع رجل لمعرفة الدرس الذي يصبو إليه و العمل الذي اعتاده ، و البيئة التي يختلف إليها .
و يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثر بالحوادث ، فالعدوى هي التي تنفر من الشئ في وقت من الأوقات ثم ترغب فيه ثانية من كان أشد الناس بغضا له .
و العدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات و معتقداتها لا الحجج و البراهين ، ففي الخمارة تتولد أفكار الفعلة من طريق التوكيد و التكرار و العدوى ، و قليلا ما تولدت أفكار الجماعات في كل عصر من غير هذا الطريق . و قد أصاب (رنان) إذ شبه مؤسسي النصرانية الاوائل بالفعلة الاشتراكيين الذين ينشرون مبادئهم من خمارة الى أخرى . و قد قال فولتير قبل ذلك بالنسية للديانة المسيحية : إنها استمرت لا يدين بها أحد إلا أخس الناس مدة مئة عام . و يؤخذ من الامثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها الى الطبقات الرفيعة . 
هذا هو السبب في أن الفكر اذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضا بين طبقات الامة الى ارفعا و إن كان فاسدا بعيدا عن الصواب . و هذه من أغرب المشاهدات الاجتماعية ، لأن الافكار العامة لا تأتيهم دائما إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها ، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم و يشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها ، ثم يبثونها في الجماعات ، و هذه تضاعف التغيير ، ثم تصير حقيقة عند العامة ، و بعد ذلك تصعد الى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية ، و على هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا و لكن من بعد باعد ، فقد تفنى عظماء الحكماء الذين يوجدون الأفكار و تصير ترابا و يمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها . 

Wednesday 20 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 22

سنتحدث عن وسائل القادة في التأثير ، و سنبدأ في التوكيد و التكرار و العدوى . إذا مست الحاجة الى قيادة جماعة و حملها على عمل من الاعمال كإحراق قصر أو الاستماتة في الدفاع عن حصن أو معقل ، وجب التأثير فيها بخواطر سريعة . و الأمثولة أشد تأثيرا في نفوسها إلا أنه يجب أن تكون هنالك أحوال جعلتها مستعدة للتأثر ، و أن يكون من يريد تحريكها حائزا للنفوذ ، و سيأتي الكلام فيه 
لكن إذا كان الغرض بث أفكار في عقولها أو معتقدات في نفوسها كالأفكار الأشتراكية العصرية ، فالوسائل غير ما تقدم و أخص ما يستعمله القادة ثلاث : التوكيد و التكرار و العدوى ، و لذلك تأثير بطئ ، إلا أنه متى انبث فيها المطلوب لزمها زمنا طويلا . 
فأما التوكيد فإنه من أهم العوامل لبث الفكر في نفوس الجماعات متى كان بسيطا خاليا من التعقل و الدليل ، و كلما كان التوكيد موجزا و مجردا عن كل ما له مسحة الحجة و التقرير كان عظيم التأثير ، فالتوكيد قيمته يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي ، و أهل الصناعات الذين يروجون بضاعتهم بالنشر عنها . 
إلا أن قيمة التوكيد هي بدوام تكراره بالألفاظ عينها ما أمكن ذلك . و أظن أن نابليون هو القائل بأن أهم صيغ البيان التكرار ، فإذا تكرر الشئ رسخ في الأذهان رسوخا تنتهي بقبوله حقيقة ناصعة . 
للتكرار تأثير في عقول المستنرين و تأثيره أكبر في عقول الجماعات من باب أولى . و السبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان ، فإذا انقضى شطر من الزمن نسي الواحد منا صاحب التكرار و انتهى بتصديق المكرر . و هذا هو السر في تأثير الإعلانات العجيب . يقرأ الواحد مئة مرة أن أحسن الحلوى ما صنعه المصنع الفلاني فينتهي به الى أن يصدق ذلك .

و متى كثر تكرار أمر و أجمع المكررون عليه تولد من عملهم تيار فكري يتلوه ذلك المؤثر العظيم ، أي العدوى ، كما وقع ذلك في بعض المشروعات المالية الشهيرة التي تمكن أصحابها بثروتهم من كسب كل قادر على معونتهم ، لأن الافكار و المشاعر و التأثيرات و المعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوتها عدوى المكروبات ، و ذلك أمر طبيعي لوجوده في الحيوانات متى اجتمعت ، فالفرس يقبع في مربطه فتفعل فعله الخيل كلها ، و تجزع الشاة أو تضطرب في حركتها فتفعل الغنم مثلها ، كذلك حركات الانسان في الجماعة عدوى سريعة جدا ، و هذا هو السبب في سرعة انزعاج الكل لفزع واحد منهم ، حتى إن اختلال القوى العقلية معد و كثير ما هم أطباء المجانين الذين جنوا ، و شاهد بعضهم نوعا من الجنون تنتقل عدواه من الانسان الى الحيوان .  

Tuesday 19 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 21

سنكمل في تأثير القادة في الجماعات . كان عمل قادة الجموع على الدوام خلق الاعتقاد بالنفوس لا فرق بين أن يكون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا ، و لا أن يكون محله عملا أو إنسانا أو رأيا . بهذا كان تأثيرهم عظيما جدا ، لأن قوة الايمان أكبر قوة في تصرف الانسان ، و قد صدق الانجيل في قوله أنه يزحزح الجبال عن مواضعها ، فمن كان مؤمنا زادت قوته عشر أمثالها ، و الذين قاموا بأكبر حوادث التاريخ أفراد من الضعفاء المؤمنين الذين لم يكن لهم من الحول الا الايمان ، و ليس المستبدون و لا الفلاسفة و لا أهل البأس على الاخص هم الذين أقاموا الأديان الكبرى التي سادت الدنيا ، و اختطوا الممالك الشاسعة التي امتدت فوق السطحين ( يقصد اليابسة و الماء ) .

لا يلبث الانسان أن يقع تحت حكم قائد يتبعه كلما خرج عن العزلة الى الجماعة ، ذلك أمر واقع في جميع الطبقات أرقاها و ادناها ، فأما افراد الطبقة العامة فإن الواحد منهم متى خرج عن حرفته أو مهنته لا تجد عنده تفكيرا واضحا في أمر من الامور .

من لوازم السلطة أن تكون مستبدة ، على أن استبدادهم هو علة سيادتهم . و قد بلغ ظمأ الجماعات أنها تخضع بفطرتها لكل من ادعى السيادة عليها . تنقسم القادة الى فريقين ممتازين ، فقادة أولو عزم و إرادة قوية و لكنها وقتية ، و قادة ذوو إرادة جمعت بين القوة و الدوام و هؤلاء قليلون ، و الفريق الأول أصحاب حدة و نزق و شجاعة و إقدام ، و هم على الأخص نافعون في تنفيذ ما دبر أو كسب الجموع بلا خوف من الخطر ، و جعل الجبان بطلا مغوارا  .

عزيمة أولئك القادة على قوتها قلما تبقى بعد زوال السبب الذي دعا إليها ، و كثيرا ما يبرهن الذين تجملوا بها على ضعف مدهش متى عادوا الى حياتهم الاعتيادية ، فتراهم لا يستطيعون التصرف في أصغر الحوادث مع كونهم ماهرين في تصريف غيرهم ، أولئك قادة لا يمكنهم القيام بوظائفهم إلا إذا كانوا أنفسهم مقودين ، و كان لهم مهيج على الدوام ، و استولت عليهم يد أو فكر من الأفكار و ساروا في طريق مرسوم من قبل . أما الفريق الثاني من القادة و هم ذوو الإرادة الثابتة ، فإن تأثيرهم أعظم بكثير و إن كانوا أقل ظهورا في الشكل ، و هم الذين نبغ من بينهم أصحاب الأعمال الكبيرة كالقديس بولس و محمد و كريستوفر كولومبوس و دولسبس و سواء كان قواد هذا الفريق من الاذكياء أو لا لهم الدنيا أبد الآبدين ، لأن الإرادة الثابتة التي اتصفوا بها ملكة نادرة الوجود لكنها قوية يخضع لها كل شئ . 

إن الكتاب الذي يضم سيرة أولئك القادة العظماء لا يكون فيه عدد كثير من الاسماء ، لكن تلك الاسماء هي التي كانت على هامة أكبر حوادث الحضارة و التاريخ . 

 

Monday 18 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 20

سنتحدث عن قادة الجماعات و طرقهم في الاقناع . ما اجتمع عدد من الاحياء سواء كان من الحيوان أو من بني الانسان الا جعل له بمقتضى الفطرة رئيسا . و الرئيس في الجماعات البشرية عبارة عن قائد في الغالب الا أن له بذلك شأنا كبيرا تجتمع الافكار و تتحد حول ارادته ، و هو الركن الأول الذي يقوم به نظام وحدة الجماعات و يهيئها لأن تصير طائفة خاصة . 
و العادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودا : أعني أنه كان مسحورا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه الا ما كان منها ، و ان كل ما يخالفها باطل ، كما جرى للزعيم ( روبسبير ) أسكرته أفكار ( روسو ) فقام يدعو اليها ، و استعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها . 
ليس القادة غالبا من اهل الرأي و الصحافة ، بل هم من أهل العمل و الإقدام ، و هم قليلوا التبصر . على أن ليس في قدرتهم التبصر ، لأن التأمل يؤدي غالبا الى الشك ثم الى السكون ، و هم يخرجون عادة من بين ذوي الاعصاب المريضة المتهوسين الذين اضطربت قواهم العقلية الى النصف ، و أمسوا على شفا جرف الجنون ، لا ينفع الدليل على فساد ما اعتقدوا كيفما كان معتقدهم باطلا ، و لا تثنيهم حجة عن طلب ما قصدوا بالغا منه الخطل ما بلغ ، و لا يؤثر فيهم الاحتقار و الاضطهاد ، بل يزيدهم تهوسا و عنادا ، حتى أنهم يفقدون غريزة المحافظة على النفس فلا يبتغون في الغالب أجرا على عملهم إلا أن يكونوا من ضحاياه . تزيد شدة اعتقادهم في قوة تأثير أقوالهم ، و الجموع تصغي دائما الى قول ذي الارادة القوية الذي يعرف كيف يتسلط عليها . و متى ما صار الناس جماعة فقدوا ارادتهم و التفوا كلهم حول من كان له شئ منها . 

وجد القادة في الأمم على الدوام غير أنهم ليسوا جميعا من أهل الاعتقاد الصادق الذي يصير به المرء رسولا في قومه ، بل في الغالب قوالون سوفسطائيون الا وراء منافعهم الذاتية فيتملقون ذوي المشاعر السافلة ليكتسبوا رضاهم و قد يكون النفوذ الذي ينالونه بهذه الوسائل كبيرا جدا إلا أنه سريع الزوال . أما أصحاب المعتقدات الصحيحة الذين تمكنوا من نفوس الجماعات و حركوها مثل ( بطرس الراهب ) و (لوثر) و ( سافونارول ) و رجال الثورة الفرنسية و غيرهم ، فإنهم لم يتمكنوا من خلب العقول و اجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه . و بذلك توصلوا الى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس ، و هي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله . 

Sunday 17 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 19

سنتحدث عن تأثير العقل في الجماعات . في الحقيقة ليس للعقل من تأثير على الجماعات ، و لهذا فإن الخطباء الذين عرفوا كيف تتأثر الجماعات إنما يخاطبون شعورها دون العقل ، لأنه لا سلطان لقواعد المنطق عليها فلأجل إقناع الجماعة ينبغي الوقوف أولا على المشاعر القائمة بها و التظاهر بموافقتها فيها ، ثم يحاول الخطيب تعديلها باستعمال مقارنات بسيطة عادية أمامها صور مؤثرة ، و ينبغي أن يكون مقتدرا على الرجوع القهقري متى وجد المقتضى ، و أن يتفرس في كل لحظة أثر كلامه في نفس سامعيه حتى يغير منه كلما مست الحاجة ، و هذه الضرورة التي تلجئ الخطيب الى سرعة تغيير الكلام بحسب الأثر الحاصل في نفس السامع ، هي التي تدلنا على ضعف الخطابة بالكلام المحضر من قبل ، لأن الخطيب يتبع في هذه الحالة سلسلة أفكاره لا حركة فكر سامعيه ، فلا يكون لكلامه أقل تأثير عندهم .

أما المناطقة فلأنهم تعودوا الاقتناع بالادلة المتسلسلة الدامغة لا يمكنهم الخروج عن عادتهم هذه في مخاطبة الجماعات ، لذلك يدهشهم على الدوام عدم تأثير استدلالهم ، قال بعض هؤلاء المنطقيين : إن للقياس المنطقي ، أعني الجمع بين الشئ و نظيره ، في الاستدلال نتيجة لازمة لا تتخلف عنه ، و هذا اللزوم يقتضي التسليم حتى من المادة لو أن فيها قدرة على أن تتمثل النظائر . و هو مسلم غير أنه لا فرق بين الجماعة و المادة في عدم إدراك النظائر ، بل في عدم القدرة على سماعها ، و من لم يصدق فليجرب أقناع الهمجي أو المتوحش أو الصبي بالحجة العقلية و الدليل المنطقي ، و هو يقتنع بضعف تأثير هذه الطريقة بإقناعهم . 

رب سائل يوجب الأسف أن العقل ليس هو الذي يهدي الجموع على الدوام ، نحن لا يسعنا القول به على الدوام ، بل نرى أنه لو كان الهدى للعقل لما اندفعت الانسانية في سبل المدنيات و الحضارة بالهمة التي أوجدتها الخيالات و الأوهام ، فليس لنا غنى عن الاوهام لانها نبات العرائز . 

كل شعب يحمل في كيانه العقلي نواميس مآله في الوجود ، و الظاهر أنه يسير محكوما بتلك النواميس ، و أنه ينقاد لحكمها بفعل فطرة لا مقدور له فيها حتى في نزعاته التي يرى أنها خارجة عن كل معقول ، و كذلك يظهر أحيانا أن الامم مدفوعة بقوى خفية مثل التي تجعل بذرة البلوط شجرة كأمها .

على أنه لا يسعنا أن نعرف الا قليلا من تلك القوى ، و ذلك بالبحث عنها في حركة تطور الامة العمومية لا في الحوادث الفردية التي يخال أنها سبب ذلك التطور ، إذ لو قصرنا النظر على هذه الحوادث لظهر أن التاريخ يتكون من مصادفات غير معقولة بالمرة ، فمما لا يصدقه العقل أن قبائل عربية تعيش في الصحراء تندلع من صحاريها و تبسط فتوحاتها على القسم الاكبر من الدنيا القديمة لتي عرفها اليونان و الرومان و تختط مملكة فاقت ضخامتها مملكة الاسكندر . و كذلك مما لا يتصوره العقل أن يقوم ضابط صغير في فرنسا (يقصد نابليون بونابرت) باحتلال معظم اوروبا و إخضاعها . 

إذن لندع العقل للحكماء و لا نطلبن منه أن يتدخل كثيرا في حكم الامم ، فما بالعقل ، بل على الرغم منه في غالب الاحيان تولدت مشاعر مثل الشرف و إنكار الذات و الايمان بالدين و حب المجد و الوطن ، و هي الصفات التي كانت و لا تزال أقوى دعائم المدنيات كلها . 

Saturday 16 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 18

نكمل في العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حديثنا سوف يكون عن التجارب . التجارب هي على التقريب الوسيلة الفعالة لتقرير الحقيقة في نفوس الجماعات ، و إزالة الأوهام التي عظم ضررها ، إنما ينبغي أن تكون عامة ما أمكن و أن تتكرر ، إذ تجارب جيل لا تؤثر غالبا في الجيل الذي يليه ، و لذلك لا تصلح الحوادث التاريخية للدليل ، بل تصلح لبيان أنه يجب تكرار التجارب من جيل الى جيل ليكوّن بعض الأثر و ليتوصل بها الى زعزعة الوهم المتأصل في نفوس الجماعة . 

و من المحقق أن مؤرخي العصور الآتية سيكثرون من ذكر حوادث هذا القرن ، و الذي تقدمه إحتوائها على تجارب لا مثيل لها ، لأن الناس لم يباشروا نظائرها في زمن من الأزمان . 

و أكبر الأحداث هي الثورة الفرنسية ، لانها تدل على أن الفرنسيين احتاجوا الى قتل عشرة ملايين من الرجال و إضرام نار الفتن و القلاقل في أوربا كلها مدة عشرين عاما ، لنعرف أن الأمة لا تخلق خلقا جديدا بإرشاد العقل وحده . حيث قام الفرنسيون بتجربتين منهكتين في خمسين عاما ليثبتوا من طريق التجربة أن القياصرة تكلف الامم التي تمجدها كلفة باهظة ، و مع أنها كانتا مشرقتين بالحجة على ما أرادوا يظهر أنهما لم تعتبرا كافيتين للأقناع ، و الأولى اقتضت بضعة ملايين من النفوس و غارة اجنبية على البلاد ، و الثانية أدت الى سلخ اقليم عنها و ضرورة إيجاد جيش مستديم مع ذلك ، و كانت الثالثة على الأبواب و هي واقعة لا محالة يوما من الايام ( يقصد بها الحرب العالمية الأولى و قد حدثت فعلا ) .

و بالجملة كان لا بد من تلك الحروب الهائلة التي استنزفت ثروة الامة الفرنسية لكي تقلع الامة كلها عن الوهم بأن الجيش الالماني العرمرم لم يكن الا عبارة عن حرس ملى لا خوف منه كما كانوا يوحون به عندنا منذ ثلاثين عاما . 

و لو أردنا أن نبرهن للأمم التي تعمل بمذهب حماية التجارة الوطنية لتقييد التجارة الاجنبية ، للزمنا القيام بتجارب ضارة بثروتنا مدة عشرين عاما ، و من السهل الاكثار من الامثلة على ما تقدم . 



ملاحظة : غوستاف لوبون عالم نفس اجتماعي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين و هو هنا يسرد الاحداث التي حصلت في فرنسا في تلك الفترة و ما قبلها و يحاول ان يستدل من خلالها على أفكاره .

Wednesday 13 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 17

نكمل في هذه المقالة ما ابتدأناه في بحثنا عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات ، و سنتحدث عن الاوهام . خضعت الجماعات منذ بزغ فجر المدنية لتأثير الاوهام ، فأقامت لموجديها أكبر التماثيل و الهياكل و المعابد ، و ما من حضارة تبلج صبحها على الارض الا و كانت تلك الملوك الهائلة في طليعة جيوشها . المعتقدات الدينية قديما و السياسية و الاجتماعية في هذه الايام هي التي شيدت هياكل الكلدان و مصر ، و أقامت المساجد و الكنائس في القرون الوسطى ، و هي التي قلبت القارة الاوربية من الرأس الى القدم في العصر الحديث و خاتمها مطبوع في جبين كل ما أبرزه العقل من المستحدثات الفنية أو السياسية أو الاجتماعية . يهدمها الانسان احيانا ، و لكنه يعاني جراء ذلك هول الانقلاب ، ثم هو محكوم عليه دائما أن يقيمها من جديد ، فلولا هي ما خرج الانسان من بربريته الاولى ، و لولاها لراح مسرعا يتخبط في اودية الخشونة و التوحش . نعم هي خيالات باطلة ، و هي بنات الاحلام ، و لكنها هي التي ساقت الامم الى ايجاد ما في الفنون من رفيع و جميل و ما في الحضارة من عظيم و جليل . 
قال ( دانيال روزيار ) :  لو أبيد ما في دور العبادات ، أو ما في المكتبات العمومية و كسرت فوق بلاط مماشيها جميع التحف و الآثار الفخمة التي ابدعتها الفنون و الاديان ، ما بقي شئ مما ولدته الاحلام ، و ما كانت الآلهة و الابطال و لا الشعراء إلا لتحدث في النفوس شيئا من الرجال و بعضا من الخيال ، إذ لا حياة للناس بغير الأمل و الرجاء . حمل العلم هذه الأمانة الثقيلة لفترة من الزمن ثم تغلبت عليه قوة الخيال ، لأنه أصبح غير قادر على الوعد بأدائها كلها عاجزا عن الكذب الى النهاية . 
اشتد ولع الفلاسفة في القرون الماضية بهدم الاوهام الدينية و السياسية و الاجتماعية التي عاش بها آباؤنا قرونا و أجيالا ، فلما ظهروا عليها كانوا قد سدوا أيضا منابع الرجاء و أغلقوا باب احتمال القضاء ، و برزت من خلف الخيال الذي خنقوه قوى الطبيعة العمياء الصماء التي لا تشفق على الضعفاء و لا تحنو على التعساء . 
سارت الفلسفة الى الامام شوطا بعيدا ، و لكنها مع تقدمها لم تهيئ للجماعات خيالا يلذها ، و الجماعات لا غنى لها عن الاوهام ، لذلك اندفعت وراء غريزتها و ذهبت الى تجار البلاغة الذين يبيعونها تجارة حاضرة مثلها كمثل الحشرة تدب حيثما يكون الضياء . إن الحقيقة لم تكن ابدا العامل الاكبر في تطور الامم ، و لكنه الباطل على الدوام . و إذا بحثت عن السبب في قوة مذهب الاشتراكية الذي أسسه العالم الاقتصادي الالماني كارل ماركس في القرن التاسع عشر و انتشر في القرن العشرين وجدته ما اشتمل عليه من الخيال الذي لا يزال حيا في العقول ، فهو يعظم و يتجسم مع تزاحم أنوار العلم التي تبرهن على فساده ، ذلك لأن قوته آتية من جهل دعاته بحقائق الأشياء جهلا كافيا يجرئهم على وعد الناس بالسعادة في الحياة ، فما كانت الجماعات في ظمأ الى الحقيقة طول حياتها ، و اذا تبدت أمامها و كانت تغضبها أعرضت و نأت و راحت تعبد الأوهام التي ترضى الامرة عليها لمن أضلها ، و الويل منها لمن هداها .

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...