Monday, 8 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 26

حدود تقلب معتقدات الجماعات و أفكارها : 
نبدأ في المعتقدات الثابتة . يوجد بين الخواص التشريحية أي الجسمانية و الخواص النفسية تشابه تام ، فمن الأولى ما هو ثابت أو لا يتغير إلا ببطئ شديد بحيث يلزم لتغييره زمن كالذي بيننا و بين الطوفان ، و منها ما هو متقلب يتغير بالسهولة من أثر البيئة أو المربي ، و قد يبلغ التغيير درجة تختفي فيها الخواص الاصلية على غير المتأمل . 
و كذلك الحال في الخواص الأدبية ، فمن أخلاق الشعب ما هو ثابت لا يغيره كرور الأيام ، و منها ما هو متقلب يتغير . و من ينعم النظر في معتقدات الأمم و أفكارها يرى دائما في أخلاقها أصلا ثابتا ترسب فوقه أفكار متقلبة كما ترسب الرمال فوق الصخر . 
و عليه تنقسم معتقدات الجماعات الى قسمين : الأول المعتقدات الدائمة التي تعمر عدة قرون ، و اليها ترجع مدنية الأمة كلها كالأفكار المسيحية و أفكار الإصلاح ( البروتستانتي ) و الأفكار الديمقراطية و الاجتماعية في أيامنا . و القسم الثاني يشمل الأفكار الوقتية المتغيرة ، و هي مشتقة في الغالب من الأفكار العامة تظهر و تغيب في الجيل الواحد كالنظريات التي تسترشد بها الفنون و الأدب في أوقات معلومة ، و مذهب حرية الكتابة و مذهب الطبيعيين و الصوفيين و غيرها . و تلك الأفكار كلها سطحية سريعة التغير ، فمثلها كمثل الأمواج الصغيرة التي تظهر و تختفي من دون انقطاع على سطح بحيرة عميقة . 
المعتقدات الكبيرة العامة قليلة جدا ، و قيامها و سقوطها في كل أمة ذات تاريخ يمثلان أعظم دور في حياتها ، و لا قوام للمدنية بدونها . 
و من السهل جدا إيجاد فكر وقتي في عقول الجماعات ، لكن من الصعب جدا تقرير معتقد دائم في نفوسها ، كما أنه من الصعب جدا هدم اعتقاد تمكن منها ، و لا سبيل الى التغيير غالبا الا بالثورات العنيفة ، بل إن الثورة لا تؤدي إلى ذلك إلا إذا اضمحل قبلها أثر المعتقد في النفوس ، فهي تصلح لكسح تلك البقية التي لا تكون في حكم المهمل لولا أن سلطان العادة يمنع من الإقلاع عنها بالمرة ، فالثورة التي تقبل عبارة عن معتقد يدبر .
و من السهل تجديد اليوم الذي يندك فيه أحد المعتقدات الكبرى ، ذلك هو يوم يؤخذ الناس بالبحث في قيمة هذا الاعتقاد ، لأن كل اعتقاد عام يكاد يكون أمرا فرضيا ، فهو لا يحتمل البقاء إلا بشرط عدم البحث فيه .
غير أن النظامات التي أسست على إعتقاد عام تستمر حافظة لقوتها و لا تتحلل إلا ببطئ ، و إن تزعزع ذلك الاعتقاد ، فإذا تم له الهدم تساقط ما بني عليه .
و مما قضت به سنة الوجود حتى الآن أن كل أمة أصبحت متمكنة من تغيير معتقداتها لا بد لها عاجلا من تغيير جميع أركان حضارتها ، فهي تغير و تبدل فيها حتى تهتدي الى معتقد جديد عام ترضاه النفوس و تعيش في فوضى حتى تعثر عليه ، فالمعتقدات العامة هي دعائم الحضارة التي لا بد منها ، و هي التي ترسم للأفكار طريقها الذي تسير فيه ، و هي التي توحي بالإيمان و تفرض الواجبات .



Saturday, 30 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 25

كنا قد تحدثنا عن ما للنفوذ من تأثير في الجماعات سواء كان ذلك النفوذ لرجال أو أفكار أو آلهة . في الحقيقة تحتاج الجماعات دائما و الافراد غالبا الى آراء حاضرة في جميع المباحث ، و انتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ ، بل مرجعه ما لها من النفوذ . 
ننتقل الآن الى النفوذ الشخصي و هو يختلف مع النفوذ المكتسب ، لأنه صفة تنفرد عن كل لقب و كل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم و يجذبونها إليهم كالمغناطيس ، و إن ساووهم منزلة بين أمتهم ، و لم يكن لهم شئ من وسائل التسلط و الغلبة و يبثون فيهم أفكارهم و ينقلون إليهم مشاعرهم ، و أولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مروّضه و إن كان في استطاعته افتراسه بسهولة لو أراد .
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قادة الجماعات مثل بوذا و عيسى و محمد و جان دارك و نابليون ، و هو السبب في تمكنهم ، فإنما تتسلط الآلهة و الأبطال و المذاهب تسلطا لا دخول للمناظرة فيه ، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه . 
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم ، و تلك القوة هي السبب في شهرتهم ، فلما بلغ نابليون مثلا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منَعَته و سلطانه ، إلا أنه كان له شئ منه يوم لم يكن له من السلطة و لم يكن معروفا عند أحد ، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال) ، و كان لا يزال مجهولا عهد اليه من كان مستضعفا له بقيادة الجيش الفرنسي المحارب في بلاد ايطاليا ، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء ، و كانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلا بينهم ، و لكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول تلقائه بهم بلا كلام و لا إشارة و لا وعيد ، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء . 
لا يقوم النفوذ بالتأثير الشخصي و الفخار العسكري ، و الرهبة الدينية دون سواها ، بل يجوز أن يتسبب عن أمر أصغر منها بكثير ، و يكون مع ذلك شديدا .
إن الناس يقلدون ذا النفوذ عمدا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانا أو رأيا أو شيئا آخر . و يتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها و يترجمون عما به يشعرون و يكون التقليد في الغالب فطريا ، لذلك يبلغ حد الكمال و الاتقان . 
إن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح ، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس و بطلت معارضتهم له ، و كذلك الفكر إذا تمكن من العقول ، و الدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك ، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر و يسخرون منه في الصباح إذا قلب له الزمان ظهر المجن . و بقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة ، فترا الجماعة من أندادها ، فتميل الى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشئ منه . هكذا كان نفوذ روبسبير ( أحد قادة الثورة الفرنسية ) شديدا يوم كان يقطع رؤوس زملائه و رؤوس الكثير من معاصريه ، فلما ضاعت منه الاصوات وقت الانتخاب و سقط من مركزه فارقه ذلك النفوذ لساعته و شيّعته الجماعة الى المشنقة و هي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه . و من عبد الآلهة و زاغ عنها كاد يقتله الغضب و هو يحطم الأصنام . 
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة ، و قد يذهب النفوذ بالبحث فيه ، لكن ذلك لا يتم بالتدريج ، و هذه الوسيلة هي أضمن وسيلة لإضاعته ، و ما من انسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه ، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها . 

Wednesday, 27 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 24

مما يساعد كثيرا على قوة تأثير الأفكار التي بثت في الجماعات بواسطة التوكيد و التكرار و العدوى كونها تنتهي بإكتساب قوة خفية تسمى النفوذ .
للنفوذ قوة لا تقف أمامها قوة أخرى ، و كل سلطة سادت في الوجود سواء كانت سلطة لأفكار أو رجال ، فهو السبب في قيامها و سيادتها . و النفوذ كلمة يعرف الجميع معناها و لكنها تستعمل استعمالات كثيرة ، و لذلك لم يكن من السهل تعريفها .
و قد يجتمع النفوذ مع بعض المشاعر كالإعجاب أو الرهبة ، و ربما كان الإثنان أصلا له في أحوال كثيرة ، إلا أنه قد يوجد بدونهما مثل نفوذ الذين ماتوا ، فإنه لا محل للخوف منهم ، و دليل ذلك أن أكثر من نشعر بنفوذه فينا هم الذين ارتحلوا عن الدنيا و لم نعد نخاف منهم مثل الإسكندر و قيصر و محمد و بوذا . كذلك لبعض الكائنات أو البدع تأثير في النفوس ، و إن كان مما لا يعجب به كالألهة المنغوليين الذين يوجدون في معابد الهند تحت سطح الأرض .
يمكن أن النفوذ عبارة عن سلطة رجل أو عمل أو فكر يستولي بها على العقول ، و تلك السلطة تعطل ملكة النقد فتملأ النفس اندهاشا و احتراما ، و لا يمكن تفسير الشعور الذي يحدث منه كما هو الشأن في كل شعور ، إلا أنه لا بد أن يكون من جنس الاجتذاب الذي يحدث في نفس الشخص النائم نوما مغناطيسيا . و النفوذ أعظم مقوم لكل سيادة في العالم .
ثم أن النفوذ أنواع يمكن حصرها في قسمين : النفوذ المكتسب و النفوذ الشخصي ، فالأول هو الذي يرجع لاسم صاحبه أو ثروته أو شهرته ، و قد يكون منفصلا عن النفوذ الشخصي ، و أما النفوذ الشخصي فهو أمر ذاتي قد يجتمع مع الشهرة و المجد و الثروة و يشتد بانضمامها اليه ، و قد يكون وحده . 
و أكثر النوعين شيوعا هو النفوذ المكتسب أو العرضي ، فهو يثبت للرجل بمجرد كونه مركزا أو يملك ثروة أو يتحلى ببعض الألقاب ، و إن لم يكن له قيمة من نفسه : فللجندي في لباسه و للقاضي في زيه الرسمي نفوذ ما ارتديا لباسهما ، و لذلك أمر باسكال بضرورة الجبة و الشعر للقضاة و لولا الجبة و الشعر لفقدوا ثلاثة أرباع نفوذهم .
و النفوذ الذي أشرنا اليه خاص بالانسان ، و بجانبه يوجد النفوذ الذي يكون للافكار أو الأدبيات أو الفنيات و غير ذلك و هو في الغالب ناشئ من التكرار ، و ما التاريخ و بالأخص تاريخ الآداب و الفنون إلا تكرار رأي سبق و لم يعارضه أحد ، فيؤول الأمر إلى أن كل واحد يكرر ما قرأ في المدرسة ، و هنالك من الأشياء و الأسماء مما لا يجرؤ أحد على الحديث فيها ، فمما لا شبهة فيه أن مطالعة الإلياذة و الأوديسة للشاعر اليوناني هوميروس تورث قراء هذا الزمان مللا شديدا إلا أنه لا يجرؤ أحد القول به ، و البارتينون أصبح اليوم خرابة تراكمت فيها الأنقاض و لا فائدة منها إلا أن نفوذه لا يزال قويا ، حتى أنهم لا يبصرونه كما هو الآن ، بل كما كان في القدم محفوفا بأبهته و فخامته ، فمن خواص النفوذ أن لا يجعل الإنسان يرى الشئ على حقيقته و أن يعطل فيه ملكة النقد و التمييز .

Saturday, 23 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 23

قد بينا أنه متى ما كثر تكرار امر معين و أجمع عليه المكررون ، انتقل هذا الأمر بالعدوى . و لا يجب في العدوى وجود أفراد كثيرين في مكان واحد ، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها . 
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه الى التقليد ، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته ، و القليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس ، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان ، و لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها ، و إنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع ، و لذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم ألا نادرا لبعد البون بينهما و من هنا قل تأثير الأوربي في الشرقي ، لأن الخلف شديد بين الرجلين .
يتشابه أهل كل عصر في أمة بتأثير الزمن و تبادل التقليد ، حتى الذين يخيل أنهم متفاوتون ، كالحكماء و العلماء و الأدباء ، فإنك ترى على أفكارهم و ما يكتبون صبغة عشيرة واحدة تدلك في الحال على أنهم أبناؤ عصر واحد ، و لا يلزم أن يطول الحديث مع رجل لمعرفة الدرس الذي يصبو إليه و العمل الذي اعتاده ، و البيئة التي يختلف إليها .
و يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثر بالحوادث ، فالعدوى هي التي تنفر من الشئ في وقت من الأوقات ثم ترغب فيه ثانية من كان أشد الناس بغضا له .
و العدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات و معتقداتها لا الحجج و البراهين ، ففي الخمارة تتولد أفكار الفعلة من طريق التوكيد و التكرار و العدوى ، و قليلا ما تولدت أفكار الجماعات في كل عصر من غير هذا الطريق . و قد أصاب (رنان) إذ شبه مؤسسي النصرانية الاوائل بالفعلة الاشتراكيين الذين ينشرون مبادئهم من خمارة الى أخرى . و قد قال فولتير قبل ذلك بالنسية للديانة المسيحية : إنها استمرت لا يدين بها أحد إلا أخس الناس مدة مئة عام . و يؤخذ من الامثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها الى الطبقات الرفيعة . 
هذا هو السبب في أن الفكر اذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضا بين طبقات الامة الى ارفعا و إن كان فاسدا بعيدا عن الصواب . و هذه من أغرب المشاهدات الاجتماعية ، لأن الافكار العامة لا تأتيهم دائما إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها ، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم و يشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها ، ثم يبثونها في الجماعات ، و هذه تضاعف التغيير ، ثم تصير حقيقة عند العامة ، و بعد ذلك تصعد الى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية ، و على هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا و لكن من بعد باعد ، فقد تفنى عظماء الحكماء الذين يوجدون الأفكار و تصير ترابا و يمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها . 

Wednesday, 20 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 22

سنتحدث عن وسائل القادة في التأثير ، و سنبدأ في التوكيد و التكرار و العدوى . إذا مست الحاجة الى قيادة جماعة و حملها على عمل من الاعمال كإحراق قصر أو الاستماتة في الدفاع عن حصن أو معقل ، وجب التأثير فيها بخواطر سريعة . و الأمثولة أشد تأثيرا في نفوسها إلا أنه يجب أن تكون هنالك أحوال جعلتها مستعدة للتأثر ، و أن يكون من يريد تحريكها حائزا للنفوذ ، و سيأتي الكلام فيه 
لكن إذا كان الغرض بث أفكار في عقولها أو معتقدات في نفوسها كالأفكار الأشتراكية العصرية ، فالوسائل غير ما تقدم و أخص ما يستعمله القادة ثلاث : التوكيد و التكرار و العدوى ، و لذلك تأثير بطئ ، إلا أنه متى انبث فيها المطلوب لزمها زمنا طويلا . 
فأما التوكيد فإنه من أهم العوامل لبث الفكر في نفوس الجماعات متى كان بسيطا خاليا من التعقل و الدليل ، و كلما كان التوكيد موجزا و مجردا عن كل ما له مسحة الحجة و التقرير كان عظيم التأثير ، فالتوكيد قيمته يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي ، و أهل الصناعات الذين يروجون بضاعتهم بالنشر عنها . 
إلا أن قيمة التوكيد هي بدوام تكراره بالألفاظ عينها ما أمكن ذلك . و أظن أن نابليون هو القائل بأن أهم صيغ البيان التكرار ، فإذا تكرر الشئ رسخ في الأذهان رسوخا تنتهي بقبوله حقيقة ناصعة . 
للتكرار تأثير في عقول المستنرين و تأثيره أكبر في عقول الجماعات من باب أولى . و السبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان ، فإذا انقضى شطر من الزمن نسي الواحد منا صاحب التكرار و انتهى بتصديق المكرر . و هذا هو السر في تأثير الإعلانات العجيب . يقرأ الواحد مئة مرة أن أحسن الحلوى ما صنعه المصنع الفلاني فينتهي به الى أن يصدق ذلك .

و متى كثر تكرار أمر و أجمع المكررون عليه تولد من عملهم تيار فكري يتلوه ذلك المؤثر العظيم ، أي العدوى ، كما وقع ذلك في بعض المشروعات المالية الشهيرة التي تمكن أصحابها بثروتهم من كسب كل قادر على معونتهم ، لأن الافكار و المشاعر و التأثيرات و المعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوتها عدوى المكروبات ، و ذلك أمر طبيعي لوجوده في الحيوانات متى اجتمعت ، فالفرس يقبع في مربطه فتفعل فعله الخيل كلها ، و تجزع الشاة أو تضطرب في حركتها فتفعل الغنم مثلها ، كذلك حركات الانسان في الجماعة عدوى سريعة جدا ، و هذا هو السبب في سرعة انزعاج الكل لفزع واحد منهم ، حتى إن اختلال القوى العقلية معد و كثير ما هم أطباء المجانين الذين جنوا ، و شاهد بعضهم نوعا من الجنون تنتقل عدواه من الانسان الى الحيوان .  

Tuesday, 19 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 21

سنكمل في تأثير القادة في الجماعات . كان عمل قادة الجموع على الدوام خلق الاعتقاد بالنفوس لا فرق بين أن يكون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا ، و لا أن يكون محله عملا أو إنسانا أو رأيا . بهذا كان تأثيرهم عظيما جدا ، لأن قوة الايمان أكبر قوة في تصرف الانسان ، و قد صدق الانجيل في قوله أنه يزحزح الجبال عن مواضعها ، فمن كان مؤمنا زادت قوته عشر أمثالها ، و الذين قاموا بأكبر حوادث التاريخ أفراد من الضعفاء المؤمنين الذين لم يكن لهم من الحول الا الايمان ، و ليس المستبدون و لا الفلاسفة و لا أهل البأس على الاخص هم الذين أقاموا الأديان الكبرى التي سادت الدنيا ، و اختطوا الممالك الشاسعة التي امتدت فوق السطحين ( يقصد اليابسة و الماء ) .

لا يلبث الانسان أن يقع تحت حكم قائد يتبعه كلما خرج عن العزلة الى الجماعة ، ذلك أمر واقع في جميع الطبقات أرقاها و ادناها ، فأما افراد الطبقة العامة فإن الواحد منهم متى خرج عن حرفته أو مهنته لا تجد عنده تفكيرا واضحا في أمر من الامور .

من لوازم السلطة أن تكون مستبدة ، على أن استبدادهم هو علة سيادتهم . و قد بلغ ظمأ الجماعات أنها تخضع بفطرتها لكل من ادعى السيادة عليها . تنقسم القادة الى فريقين ممتازين ، فقادة أولو عزم و إرادة قوية و لكنها وقتية ، و قادة ذوو إرادة جمعت بين القوة و الدوام و هؤلاء قليلون ، و الفريق الأول أصحاب حدة و نزق و شجاعة و إقدام ، و هم على الأخص نافعون في تنفيذ ما دبر أو كسب الجموع بلا خوف من الخطر ، و جعل الجبان بطلا مغوارا  .

عزيمة أولئك القادة على قوتها قلما تبقى بعد زوال السبب الذي دعا إليها ، و كثيرا ما يبرهن الذين تجملوا بها على ضعف مدهش متى عادوا الى حياتهم الاعتيادية ، فتراهم لا يستطيعون التصرف في أصغر الحوادث مع كونهم ماهرين في تصريف غيرهم ، أولئك قادة لا يمكنهم القيام بوظائفهم إلا إذا كانوا أنفسهم مقودين ، و كان لهم مهيج على الدوام ، و استولت عليهم يد أو فكر من الأفكار و ساروا في طريق مرسوم من قبل . أما الفريق الثاني من القادة و هم ذوو الإرادة الثابتة ، فإن تأثيرهم أعظم بكثير و إن كانوا أقل ظهورا في الشكل ، و هم الذين نبغ من بينهم أصحاب الأعمال الكبيرة كالقديس بولس و محمد و كريستوفر كولومبوس و دولسبس و سواء كان قواد هذا الفريق من الاذكياء أو لا لهم الدنيا أبد الآبدين ، لأن الإرادة الثابتة التي اتصفوا بها ملكة نادرة الوجود لكنها قوية يخضع لها كل شئ . 

إن الكتاب الذي يضم سيرة أولئك القادة العظماء لا يكون فيه عدد كثير من الاسماء ، لكن تلك الاسماء هي التي كانت على هامة أكبر حوادث الحضارة و التاريخ . 

 

Monday, 18 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 20

سنتحدث عن قادة الجماعات و طرقهم في الاقناع . ما اجتمع عدد من الاحياء سواء كان من الحيوان أو من بني الانسان الا جعل له بمقتضى الفطرة رئيسا . و الرئيس في الجماعات البشرية عبارة عن قائد في الغالب الا أن له بذلك شأنا كبيرا تجتمع الافكار و تتحد حول ارادته ، و هو الركن الأول الذي يقوم به نظام وحدة الجماعات و يهيئها لأن تصير طائفة خاصة . 
و العادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودا : أعني أنه كان مسحورا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه الا ما كان منها ، و ان كل ما يخالفها باطل ، كما جرى للزعيم ( روبسبير ) أسكرته أفكار ( روسو ) فقام يدعو اليها ، و استعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها . 
ليس القادة غالبا من اهل الرأي و الصحافة ، بل هم من أهل العمل و الإقدام ، و هم قليلوا التبصر . على أن ليس في قدرتهم التبصر ، لأن التأمل يؤدي غالبا الى الشك ثم الى السكون ، و هم يخرجون عادة من بين ذوي الاعصاب المريضة المتهوسين الذين اضطربت قواهم العقلية الى النصف ، و أمسوا على شفا جرف الجنون ، لا ينفع الدليل على فساد ما اعتقدوا كيفما كان معتقدهم باطلا ، و لا تثنيهم حجة عن طلب ما قصدوا بالغا منه الخطل ما بلغ ، و لا يؤثر فيهم الاحتقار و الاضطهاد ، بل يزيدهم تهوسا و عنادا ، حتى أنهم يفقدون غريزة المحافظة على النفس فلا يبتغون في الغالب أجرا على عملهم إلا أن يكونوا من ضحاياه . تزيد شدة اعتقادهم في قوة تأثير أقوالهم ، و الجموع تصغي دائما الى قول ذي الارادة القوية الذي يعرف كيف يتسلط عليها . و متى ما صار الناس جماعة فقدوا ارادتهم و التفوا كلهم حول من كان له شئ منها . 

وجد القادة في الأمم على الدوام غير أنهم ليسوا جميعا من أهل الاعتقاد الصادق الذي يصير به المرء رسولا في قومه ، بل في الغالب قوالون سوفسطائيون الا وراء منافعهم الذاتية فيتملقون ذوي المشاعر السافلة ليكتسبوا رضاهم و قد يكون النفوذ الذي ينالونه بهذه الوسائل كبيرا جدا إلا أنه سريع الزوال . أما أصحاب المعتقدات الصحيحة الذين تمكنوا من نفوس الجماعات و حركوها مثل ( بطرس الراهب ) و (لوثر) و ( سافونارول ) و رجال الثورة الفرنسية و غيرهم ، فإنهم لم يتمكنوا من خلب العقول و اجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه . و بذلك توصلوا الى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس ، و هي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...