أبو الطيب المتنبي علم الشعر الاشهر في اللغة العربية ، لم يبلغ أحد من شعرائها مبلغه من الشهرة في حياته و لا بعد مماته. شاع ديوانه و هو بقيد الحياة بين أرجاء الدولة الاسلامية من أقصى المشرق في فارس إلى أقصى المغرب في الاندلس ، و احتفل أئمة اللغة بدرسه و تفسيره و تصحيح الاقوال في نقده ، فلم يهمله مشتغل بالشعر من كبار النحاة و اللغويين ، منذ القرن الرابع و حتى العصر الاخير ، و اقبل الناس على حفظ شعره و روايته إقبالهم الذي لا سلطان عليه للولاة و لا للمحكمين في الادب من العلماء و النقاد . فكان ابن العميد و هو اديب ذو ولاية ينقم عليه هذه الشهرة ، و يشكو ضعف الحيلة في اخمال ذكره و الغض من قدره ، قال بعض صحبه : ( دخلت عليه يوما فوجته واجما و كانت قد ماتت اخته عن قريب فظننته واجدا لاجلها ، فقلت : لا يحزن الله الامير فما الخبر ؟ قال: انه ليغيظني هذا المتنبي و اجتهادي في ان اخمل ذكره و قد ورد علي نيف و ستون كتابا في التعزية ما منها الا و صدر بقوله :
طوى الجزيرة حتى جائني خبر
فزعت فيه بآمالي الى الكذب
فلما لم يترك لي صدقه املا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
فكيف السبيل الى اخمال ذكره ؟ قلت : القدر لا يغالب و الرجل ذو حظ من اشاعة ذكره و اشهار اسمه فالاولى الا تشغل فكرك بهذا الامر. و ليس الامر للحظ كما قال صاحب ابن العميد فان اسبابه غير خفية في عصر الرجل و كفايته لتلك الشهرة ، و قد كان عصره تمام اللغة العباسية ، و عصر التطلع من المتأخرين لمجراة الاولين ، و عصر الغيرة العربية بعد غلبة الاعاجم على دولتها في اواسط الدولة العباسية و كان تصدع الدولة و تعدد الامراء على بلادها سببا من اسباب التنافس بين الامراء على ارتفاع الذكر و المحمدة و نباهة الشأن . فكان سعي الامراء الى اكتساب مديح الشاعر المشهور اشد من سعي الشعراء الى اكتساب جوائز الممدوحين. و ارتضى هؤلاء الامراء من هذا الشاعر ما لم يكن يرتضيه ممدوح من مادح في زمانه و لا قبل زمانه و قيل ان الامير طاهر بن الحسين اقامه في مكانه و جلسبين يديه ليستمع الى مديحه فيه و كان اكبر ما يخشاه الامير منهم ان يتخطاه الشاعر فلا يقصد اليه و لا يمدحه كما مدح انداده ، فقصدوه بالدعوة قبل ان يقصدهم بالمديح.
No comments:
Post a Comment