Tuesday, 19 July 2022

التاريخ الروماني الجزء ١

 في القرن الثامن قبل الميلاد نشأت روما لتتحول من مدينة صغيرة على نهر التايبر الى امبراطورية تمتد من الجزيرة البريطانية غربا الى العراق شرقا. و لكن كيف نشأت هذه المدينة و كيف قامت باحتلال شبه الجزيرة الايطالية و من ثم التوسع شرقا و غربا لتنشأ امبراطوريتها المترامية الاطراف هذا ما سنحاول ان نوضحه في هذه السلسة التي تتناول التاريخ الروماني.



نشوء روما

لا نمتلك معلومات و كافية و قطعية عن الكيفية التي نشأت فيها روما. تقول الأسطورة التي يؤمن بها الرومان أن التوأمان روميلوس و ريمس ولدا من ريا سيلفيا و هي ابنة ملك البا لونكا بعد ان حملت من اله الحرب مارس. بعد ذلك قام اخو ملك البا لونكا المسمى بإمليوس باغتصاب العرش من اخيه و اراد ان يقوم بقتل التوأمين من اجل تأمين عرشه فقام اغراقهما في نهر التايبر، و لكن بطريقة أو بأخرى نجا الطفلان من الغرق حيث طفوا على الشاطئ ، فجائت ذئبة و أرضعتهما. لكي يقوم بعد ذلك أحد الفلاحين بالتقاطهما و تربيتهما. بعد أن كبر التوأمان و أدركا حقهما بالملك فقاما بحشد جيش للإطاحة بالملك إمليوس. حصلت خلافات بين الاخوين على الملك فقام روميلوس بقتل اخيه ريمس و يستفرد بالملك. بعد ذلك بعدة سنوات ذهب روميلوس الى ضفة نهر التايبر لينشأ مدينة أسماها روما. تلا الملك روميلوس ستة ملوك كان آخرهم هو الملك تاركوينوس بريسيبوس الذي قام مجلس الشيخ الروماني بالاطاحة به عام ٥٠٩ قبل الميلاد لينتهي بذلك العصر الملكي من تاريخ روما و يبدأ العصر الجمهوري. يشكك كثير من المؤرخين المحدثين بهذه الرواية و يعبرونها مجرد اسطورة حيث لا توجد ادلة كافية تثبت هذه الرواية. هناك طائفة من المؤرخين تقول ان اصل الرومان في الاساس من اليونان ، حيث هاجر بعض اليونانيين الى روما ليقوموا بإنشاء مستعمرة هناك. لكن الادلة تعوزنا لكي نؤكد هذا الرأي. 


عصر الجمهورية الرومانية 

بدأ العصر الجمهورية الرومانية بعد الاطاحة بآخر الملوك الاستروكيين من قبل مجلس الشيوخ الروماني لتدشن بدء عصر جديد. اتسم عصر الجمهورية الرومانية بسمات تختلف كليا عن العصر الذي سبقه على مستوى ادارة البلاد و الكيفية التي ينتخب فيها الحاكم و كذلك شهد توسعا جعل من روما الحاكمة على شبه الجزيرة الايطالية بأكملها.

 


النظام السياسي في عصر الجمهورية الرومانية

كان مجلس الشيوخ ينتخب عضوين من المجلس يطلق عليهم اسم القنصل ، تمتد فترة حكمهم لسنة واحدة فقط ليتم استبدالهما في العام الذي يليه. كان من وظيفة هذين القنصلين ايضا قيادة الجيش الروماني في الحروب الخارجية. 

على الرغم من كون اعضاء مجلس الشيوخ منتخبين من قبل الشعب الا انهم ينتمون في معظمهم الى الطبقة الاستقراطية حيث ان الوسيلة الموصلة الى مجلس الشيوخ هي الثروة و النسب و بذلك  لم يكن مجلس الشيوخ يحتوي الا على الطبقة الارستقراطية الذين يسمون بال { Patricians } و لم يكن لعامة الناس المسمين { plebeians } اي فرصة للوصول الى مراكز القوة في الجمهورية الرومانية الا اذا كانوا من اصحاب الثروات.

في عام ٤٥٠ بعد الميلاد كُتب اول قانون روماني و الذي كتب على اثني عشر لوحا برونزيا. و تحتوي هذه الالواح على الاجراءات القضائية و حقوق المدنيين و حقوق الملكية لتشكل الاساس الذي سوف يبنى عليه القانون المدني في الامبراطورية الرومانية لسنوات.

احد هذه القوانين كان عندما تقع ازمة سياسية او عسكرية تهدد وجود الجمهورية الرومانية كان تكون حرب خارجية خطيرة فان مجلس الشيوخ يعمد الى انتخاب دكتاتور مؤقت واحد فقط مطلق الصلاحية و من غير اي تقييد من اجل عبور الازمة ، و بعد ان تنتهي الازمة تعود الاوضاع الى طبيعتها و يُلف منصب الدكتاتور و يتم انتخاب قنصلين من جديد. احد الامثلة الشهيرة على ذلك هي عندما غزا القائد القرطاجي هانيبال الشهير الجمهورية الرومانية في الحرب البونيقية الثانية عام ٢١٨ قبل الميلاد بعد عبوره لجبال الالب و هزم الجيش الروماني بثلاثة معارك طاحنة ادت الى قيام مجلس الشيوخ بتعيين فابيان كدكتاتور للجمهورية. 

Thursday, 31 December 2020

أبو الطيب المتنبي ج1

 أبو الطيب المتنبي علم الشعر الاشهر في اللغة العربية ، لم يبلغ أحد من شعرائها مبلغه من الشهرة في حياته و لا بعد مماته. شاع ديوانه و هو بقيد الحياة بين أرجاء الدولة الاسلامية من أقصى المشرق في فارس إلى أقصى المغرب في الاندلس ، و احتفل أئمة اللغة بدرسه و تفسيره و تصحيح الاقوال في نقده ، فلم يهمله مشتغل بالشعر من كبار النحاة و اللغويين ، منذ القرن الرابع و حتى العصر الاخير ، و اقبل الناس على حفظ شعره و روايته إقبالهم الذي لا سلطان عليه للولاة و لا للمحكمين في الادب من العلماء و النقاد . فكان ابن العميد و هو اديب ذو ولاية ينقم عليه هذه الشهرة ، و يشكو ضعف الحيلة في اخمال ذكره و الغض من قدره ، قال بعض صحبه : ( دخلت عليه يوما فوجته واجما و كانت قد ماتت اخته عن قريب فظننته واجدا لاجلها ، فقلت : لا يحزن الله الامير فما الخبر ؟ قال: انه ليغيظني هذا المتنبي و اجتهادي في ان اخمل ذكره و قد ورد علي نيف و ستون كتابا في التعزية ما منها الا و صدر بقوله :

                                  طوى الجزيرة حتى جائني خبر 

                                                       فزعت فيه بآمالي الى الكذب 

                                  فلما لم يترك لي صدقه املا 

                                                       شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

فكيف السبيل الى اخمال ذكره ؟ قلت : القدر لا يغالب و الرجل ذو حظ من اشاعة ذكره و اشهار اسمه فالاولى الا تشغل فكرك بهذا الامر. و ليس الامر للحظ كما قال صاحب ابن العميد فان اسبابه غير خفية في عصر الرجل و كفايته لتلك الشهرة ، و قد كان عصره تمام اللغة العباسية ، و عصر التطلع من المتأخرين لمجراة الاولين ، و عصر الغيرة العربية بعد غلبة الاعاجم على دولتها في اواسط الدولة العباسية و كان تصدع الدولة و تعدد الامراء على بلادها سببا من اسباب التنافس بين الامراء على ارتفاع الذكر و المحمدة و نباهة الشأن . فكان سعي الامراء الى اكتساب مديح الشاعر المشهور اشد من سعي الشعراء الى اكتساب جوائز الممدوحين. و ارتضى هؤلاء الامراء من هذا الشاعر ما لم يكن يرتضيه ممدوح من مادح في زمانه و لا قبل زمانه و قيل ان الامير طاهر بن الحسين اقامه في مكانه و جلسبين يديه ليستمع الى مديحه فيه و كان اكبر ما يخشاه الامير منهم ان يتخطاه الشاعر فلا يقصد اليه و لا يمدحه كما مدح انداده ، فقصدوه بالدعوة قبل ان يقصدهم بالمديح.

Thursday, 18 June 2020

مصطفى حجازي ، سايكلوجيا الانسان المقهور ، نظريات التخلف الجزء 2

الطريقة الاقتصادية في دراسة التخلف .
ركزت هذه الطريقة في مرحلة أولى على أدوات الإنتاج و مستواه ، متخذة منطلقا تقنيا صناعيا . ثم تطورت في مرحلة تالية للاهتمام بدراسة البنى الاقتصادية للبلد المتخلف ، و هو تطور يذهب في اتجاه مزيد من العمق و الشمول في البحث عن دينميات التخلف ، بينما اعتبرت المرحلة الاولى للتخلف مجرد مسألة تأخر تقني : بدائية في وسائل الانتاج ، ضآلة في مستوى التصنيع .

التخلف الصناعي و التقني .
يكاد التخلف يكون مرادفا لقلة التصنيع و بدائيته . هنالك سوء استغلال للثروات ، يصل الى حد انعدام الاستغلال ، و تبقى الوسائل الصناعية المستوردة ( الآلات و غيرها ) مكدسة يصيبها التلف بعد حين ، لعدم وجد من يستخدمخا أو لرداءة الصيانة .
يقول فالكووسي في كتابه ، مشكلات التنمية في العالم الثالث : إن البلد المتخلف يتميز يتصف بالطابع السكوني للاقتصاد . و هذا يعني مستوى منخفضا من القوى الانتاجية ، و بالتالي مستوى منخفضا من وسائل العمل و مهارة اليد العاملة . فوسائل الانتاج بدائية بشكل عام و هي لم تتغير منذ قرون مقارنة بالبلدان المتقدمة . و ينجم عن هذا وسائل انتجاية ضعيفة و دخل منخفص و هذا هو سبب ظاهرة الفقر و البؤس للسكان معيشيا . ان العلة بحسب هذه النظرية ترجع الى الافتقار الى الوسائل القادرة على رفع مستوى الانتاج و اليد العاملة الفنية و التي لا يمكن من غيرها الافادة من وسائل الانتاج الحديثة . و ينتج عن هذا انخفاض في الدافع الى التوظيف بسبب قلة الربح .
و لكن لا يفوت الباحث أن الانخفاض في مستوى القوة الانتاجية لا يرجع فقط الى الافتقار الى الوسائل القادرة على رفع مستوى الانتاج و اليد العاملة ، و إنما يرجع أساسا الى البنية الاجتماعية ، و بالنظام الاجتماعي السائد ، و هو عادة من النوع الاقطاعي الذي تندر فيه التحولات الرأسمالية . إن ربط المستوى التقني بالبنية الاجتماعية و النظام الاجتماعي السائد بالإضافة الى ضرورته ، يضعةالمشكلة في إطارها الصحيح ، فالعلاقات الانتاجية الاقطاعية لا تسمح بالتطوير الاجتماعي ، لذبك فهي تمثل المعرقل الأساسي لعملية النمو .
و إذا أتينا لتعريف المؤلف لخصائص الاقتصاد المتخلف الذي يقول : إنه اقتصاد لا يكفي مجموع رؤوس الأموال المتوفرة فيه ، لاستخدام اليد العاملة المتاحة ، على أساس التقنية الحديثة للإنتاج و لا لاستثمار الثروات الطبيعية . واضح أن هذا التعريف يركز على مشكلة رأس المال من ناحية و على أدوات الانتاج من ناحية أخرى ، و لكنه لا يأخذ بنظر الاعتبار أن رأس المال المتوفر أحيانا ، كما في بعض الدول النامية الغنية ، لا يوظف بطريقة انتاجية ، و إنما يصرف لأغراض استهلاكية . أما مسألة بدائية وسائل الانتاج فهي فما هي الا نتائج لعوامل أعمق منها ، عوامل اجتماعية تضرب في جذورها في عمق المجتمع المتخلف .
إن البلدان النامية لا تفتقر الى الصناعة المتطورة و لا إلى الزراعة المتطورة كليا ، حيث أن هذه البلدان الظروف التي كانت فيها تختلف تماما عن الظروف التي كانت قائمة في البلدان الصناعية قبل الثورة الصناعية .
على المستوى الصناعي يقول العالم لاكوست بوجود تناقض صارخ بين قطاع الحرف ذات الطرق البدائية و بين القطاع الاقتصادي ، و الانفصال بينهما شبه تام . فالحرف موجهة لسكان البلد نفسه ، أما القطاع الصناعي فهو يخص القلة ، و هو متوجه الى الخارج أساسا ، من حيث الاستيراد و التصدير و موارد الأرباح . فالقطاع الصناعي معزول تماما عن المجتمع و بالتالي ليس له تأثير في تغيير بنية المجتمع الاجتماعية . كما أن مردوده المالي لا يرجع على المستوى الشعبي رخاءاً و ازدهاراً و إنما يذهب في أيدي القلة القليلة . 
أما في البلاد المتقدمة ، فالتصنيع ظاهرة شاملة ، متنوعة و متماسكة و تراكمية . فهي تشمل مختلف قطاعات  السكان ، و تنعكس عليهم و على نمط حياتهم . و هي متماسكة فيما بينها فهنالك تكامل بين الالات و المواصلا و النظم الحسابية ، و تراكمية بمعنى أن الآلات تنتج آلات أخرى ، تطورها و تزيد فعاليتها . ذلك هو الفرق بين الصناعة في البلدان المتقدمة و البلدان المتخلفة . 
إذن نستنتج أن التخلف و القصور في الصناعة لا يرجع فقط الى قصور في الإمكانات فقط ، أي في وسائل الانتاج و اليد العاملة ، و إنما ينتج عن بنية اجتماعية متصلبة تشل النمو الصناعي و هذا هو السبب الرئيس للقصور و التخلف الصناعي ، و ليس نقص وسائل الانتاج و اليد العاملة إلا نتيجة من نتائجه .

Friday, 12 June 2020

مصطفى حجازي ، سايكلوجيا الانسان المقهور ، نظريات التخلف الجزء 1

الطريقة السطحية في دراسة التخلف : 
 الطريقة الأكثر قدما و شيوعا لدراسة التخلف في رأي واضعي دائرة المعارف العالية هي التي تعرف الظاهرة بأغراضها . و النموذج عليها : الأبحاث و الكتابات التي نشرتها الأمم المتحدة . فمن مميزات التخلف مثلا : الفقر ، حالة التغذية ، الحالة الصحية ، التعليم ، و أهمها على الإطلاق متوسط الدخل الفردي . و هنا تنقسم البلاد الى عدة فئات ، من الاكثر تخلفا الى الاكثر تقدما . فالباد من الفئة الاولى ، هي التي يقل دخل الفرد فيها عن 100 دولار سنويا . اما البلاد النامية فيتراوح الدخل فيها ما بين 100 الى 300 دولار و هي البلدان التي تضم النسبة الكبرى من سكان الكرة الارضية . و هناك بلاد على طريق النمو يتراوح الدخل فيها ما بين 300 الى 1000 دولار ، و أخيرا البلدان الصناعية المتقدمة و يتجاوز الدخل فيها 1000 دولار .
إلا أن مؤشر الدخل القومي مقسما على عدد السكان مضلل جدا . فهو من ناحية لا يبين التشتت الكبير في مستوى مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع . فالدخل لا يتوزع مطلقا بالتساوي . هناك فئة قليلة تحظى بالنسبة الأكبر من الدخل ، و تعيش فوق مستوى الفئة المماثلة لها في البلاد المتقدمة ، و هي في حالة من البذخ المادي المفرط . بينما الغالبية الكبرى من السكان تعيش دون مستوى الكفاف ، دون الحد الأدنى الحيوي . و من ناحية اخرى فهنالك ظاهرة الغنى المفاجئ في الدول البترولية ، دون أن تعكس هذه الثروة تطورا في البنى الاقتصادية و الاجتماعية يرتقي بها الى مستوى التقدم . هذه الثورة وليدة قطاع محدود و معزول عن بقية قطاعات الانتاج التي تظل متخلفة و بدائية . ثم إن استخدام الثروات النفطية ما زال ، في كثير من حالاته و في نسبة مهمة منه ، من النوع المتخلف ( الاستهلاك الدخلي للسلع المستوردة أو التوظيف في الخارج ) .
أما لاكوست فيلخص المحكات السطحية للتخلف في ثلاثة : الدخل القومي للفرد بالمتوسط ، الوحدات الحرارية المستهلكة في التغذية ، مستوى التعليم أو نسبة انتشار الامية . هذه المحكات لا تتوافق دائما فيما بينها . فالدخل القومي قد يكون كبيرا و لكن التغذية سيئة او العكس . و من رأيه أن الجوع هو أخطر أعراض التخلف و اكثرها عمومية ، فهو يميز مجمل الباد النامية ، فثلاثة أرباع البشرية تعاني من سوء التغذية . 
و تزداد المشكلة خطورة بسبب التفاوت الهائل في المستوى المعيشي و الغذائي للسكان . فهنالك قلة تستهلك اكثر بكثير مما يجب من الوحدات الحرارية . و لكن الغالبة العظمى من السكان تعاني من نقص الغذاء . 
يضاف الى ذلك و يضاعف من خطورته انحسار زراعة المواد المعيشية ، و تحول قسم مهم من الزراعة الى التصدير الخارجي ، مما يحرم غالبية السكان من المواد الغذائية الضرورية ، يضاف الى ذلك سوء توزيع الثروة و الغذاء داخليا ، و هو انعدام التكافؤ في عمليات التبادل الدولي بين المنتجات الزراعية و المنتجات المصنعة لمصلحة البلدان المتقدمة . 
لا تساعد النظرية السطحية على حسن التشخيص ووضع السياسات التنموية الملائمة .تعرف الطريقة السطحية التخلف إذا كظاهرة دونية اساسا ، فالبلد المتخلف هو أقل مستوى من بقية البلدان من حيث تأمين الحاجات الحيوية الضرورية للإنسان و مستوى انجازاته الاقتصادية و التقنية منخفض . و لكن هذا التعريف لا يستقيم نظرا لعدم توحيد المعايير من ناحية ، و لصعوبة المقارنة بين البلدان المتقدمة و النامية من ناحية اخرى ، و لوجود بلدان غنية حاليا ، و لكنها ما زالت متخلفة اجتماعيا من ناحية ثالثة . اذن لا بد من دراسة نوعية البنى الاقتصادية و الاجتماعية لبلد ما كي نحدد التخلف .

Thursday, 11 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 29

أقسام الجماعات : 
بعد أن بينا الصفات العامة للجماعات النفسية ينبغي أن نبين الصفات الخاصة التي تنفرد بها المجاميع عن بعضها إذا صارت جماعات بتأثير الأسباب المؤدية الى ذلك . 
و لنبدأ بقول موجز في تقسيم الجماعات . 
فأولها الجمع مطلقا و أدنى مراتبه ما كان مؤلفا من أفراد ليسوا من شعب واحد و لا رابطة بينهم إلا إرادة رئيسهم بقدر ماله من المنزلة فيهم . و يمكن التمثيل لهذه المجاميع بالمتبربرين مختلفي الأصول الذين أغاروا على الأمبراطورية الرومانية مدة قرون عدة . و يليها الجموع التي احتفتها أحوال و عوامل ولدت فيها صفات عامة و انتهت بأن صارت شعبا واحدا ، و لهذه الجموع في بعض الأحيان الصفات الخاصة بالجماعات ، إلا أن هذه الصفات الخاصة تكون دائما متأثرة بصفات الشعب العامة . 
فإذا اجتمعت في هذه المجاميع بقسميها العوامل التي ذكرناها صارت جماعات منظمة أو نفسية ، و هذه الجماعات تنقسم إلى الأقسام التالية : 
أولا : الجماعات مختلفة العناصر و فيها : 
1- الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الطريق العام 
2- الجماعات التي لها اسم خاص كالعدول المحلفين و المجالس النيابية و هكذا .
ثانيا : الجماعات المؤتلفة العناصر و فيها : 
1- الأفناء كالجموع السياسية و الدينية و العسكرية 
2-الطوائف كالجموع العسكرية و رؤساء الدين و العمال و هكذا 
3-الطبقات كجموع الأواسط و جموع أهل الريف و هكذا .
و إليك قولا موجزا في بيان مميزات كل نوع من هذه الأنواع : 
القسم الأول : الجماعات مختلفة العناصر : هذه الجموع تتألف من أفراد أيا كانوا و كيفما كانت حرفتهم و عقولهم . و نحن الآن نعرف أنه متى اجتمع قوم و كونوا جماعة عاملة اختلفت أحوالهم النفسية و الاجتماعية مع أحوالهم النفسية الفردية اختلافا عظيما ، و أن العقل لا يمنع من هذا الاختلاف لأنه لا تأثير  له في الجماعات ، و أن الذي يؤثر في الجماعات هو المشاعر الغريزية . 
و من العوامل الأصلية ما يسهل معه تمييز الجماعات المختلفة العناصر تمييزا تاما و هو الشعب ، و قد ذكرناه مرارا و قلنا أنه أعظم المؤثرات التي تنبعث عنها أفعال الناس . و إن له له تأثيرا في صفات الجماعات . 
و عليه تحكم روح الشعب دائما روح الجماعة ، فهي لها كالدائرة المنيعة التي تنظم تقلباتها و تحدد حركاتها ، و من هنا ينبغي أن نقرر القاعدة الآتية : تكون الصفات المنحطة في الجماعة ضعيفة بقدر ما تكون روح الشعب قوية ، فحالة الجماعة هي الهمجية و تسلطها رجوع للعمجية ، و لا يخرج الشعب من الهمجية و يتخلص من سلطة الجماعات التي لا يحكمها العقل إلا إذا كانت له روح قوية شديدة ، و ذلك يتأنى بالتدريج .
و يلي الجماعات المتقدمة الذكر الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الشوارع ، ثم الجماعات التي لها اسم ، تعرف به، كجماعات العدول و المجالس النيابية ، و الذي يوجب اختلاف هذين النوعين غالباةفي انفعالهمة هو أن الاولى لا تشعر بتبعة ما نتح عن أعمالها بخلاف الثانية ، فإنها تقدر تبعة عملها كما ينبغي . 
القسم الثاني : الجماعات المؤتلفة العناصر 
تفترق الجماعات المؤتلفة العناصر إلى أفناء و طوائف ، فالأفماء أول المراتب ، و هي تتألف من أفراد مختلفين في التربية و الحرفة و البيئة أحيانا و لا جامعة تجمعهم إلا وحدة الاعتقاد ، و من هذا النوع الأفناء السياسية و الأفناء الدينية .
و الطوائف أرقاها ، و هي تتألف من أفراد متحدين في الحرفة ، فهم متشابهون في التربية و البيئة كجماعة الجند و جماعة الروساء الروحانيين .
و الطبقات هي التي أفرادها من مناشئ مختلفة اجتمعوا لا بجامعة الاعتقاد كالأفناء و لا بجامعة وحدة الحرف كالطوائف ، بل بجامعة المنافع و الشبه في حالة المعيشة و التربية كطبقة الأواسط في الأمة و طبقة الزراع ... و هكذا .

Wednesday, 10 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 28

سنتحدث عن ما للجماعات من الأفكار غير الثابتة . يوجد فوق سطح العقائد الثابتة التي شرحنا تأثيرها العظيم طبقة من الأفكار و الآراء التي تتجدد و تزول دائما ، فمنها ما يدوم يوما واحدا ، و أهمها لا يدوم أكثر من الجيل الذي نشأ فيه . أن التغيير الذي يطرأ على هذه الأفكار صوري أكثر مما هو حقيقي في الغالب ، و أنها مصبوغة على الدوام بصبغة الشعب الذي توجد فيه . و في الحقيقة أن وضع الأسماء للأفكار و إلباس الشئ ثوبا يريه غير صورته الحقيقية لا يغير من حقيقة ذلك الشيء . 
و الحقيقة أن مثل هذه التقلبات ليست إلا صورية غير حقيقية ، و أن مثل هذه التقلبات ليست في مجال العادات و التقاليد و السياسة فقط بل حتى في الأفكار و في الأدب و الفنون و الفلسفة ، كان الناس يتغنون باسم هذا الكاتب أو ذلك المصور في المساء ، فإذا أصبح الصباح حقروه و رذلوه . 
و إذا دققنا البحث في هذه التقلبات التي يخال أنها حقيقية متأصلة في النفس رأينا أن ما كان منها مخالفا للاعتقادات العامة و مشاعر الشعب ، فهو زائل لا يدوم إلا يسيرا ، و لا تلبث المياه أن تعود الى مجاريها ، فمن المعلوم أنه يستحيل دوام الأفكار التي لا رابطة بينها هي و المعتقدات العامة و مشاعر الشعب ، لأنها معرضة لتأثير الطوارئ و الاتفاق تتغير بأقل تغيير في البيئة التي وجدت فيها . و مما يدل أيضا على عدم بقائها أنها تولدت من طريق الإلقاء و العدوى ، فهي تولد ثم تموت بسرع  الرمل الذي يتكون أكداسا على شاطئ البحر ثم تذهب به الريح ثم تعيده ... و هكذا .
و لقد كثرت في أيامنا هذه أفكار الجماعات التي لا بقاء لها ، و لذلك ثلاثة أسباب : 
الأول : أن الاعتقادات القديمة أخذت تضعف شيئا فشيئا ، فلم تعد تؤثر في الأفكار العرضية تأثيرا ينظمها و يهديها ، و ضعف تلك الاعتقادات العامة من شأنه أن يفسح المجال لتولد أفكار خاصة لا رابطة بينها و الماضي ، و لا يرجى بقائها في المستقبل .
السبب الثاني : أم قوة الجماعات تزداد شيئا فشيئا ، و القوة المضادة تضعف بمقدار ذلك ، و قد عرفنا أن الجماعات كثيرة التقلب في أفكارها ، فالنتيجة أنها صارت أكثر حرية في إظهار تلك الأفكار المتقلبة .
السبب الثالث : هو كثرة انتشار المطبوعات لما فيها من كثرة الأفكار المتناقضة التي تعرضها على الجماعات . فالفكرة لا تكاد تظهر حتى تبطل بظهور فكرة تخالفها ، و ما من فكر ينتشر تماما و كلها محكوم عليها بسرعة الزوال ، فهي تموت قبل أن تنتشر انتشارا يثبتها و يجعلها معتقدا عاما . 
من تلك الأسباب تولدت ظاهرة جديدة في تاريخ البشر ينفرد بها العصر الحاضر ، و هي ضعف الحكومات عن قيادة الرأي العام . 
كان زمام الرأي في الزمن السابق ما هو في يد الحكومات و بعض ذوي النفوذ من الكتاب ، و عدد مخصوص من الجرائد : فأما الكتاب فقد انعدم تأثيرهم ، و أما الجرائد فإن وظيفتها أصبحت قاصرة عن أن تكون مرآة للرأي ، و أما السياسيون فإنهم لا يديرونه بل يسيرون خلفه ، و قد أخذتهم منه رهبة تكاد أحيانا تبلغ حد الذعر و الانذهال ، فهم لا يثبتون في أي طريق يسلكون . 


Tuesday, 9 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 27

أدركت الأمم على الدوام فائدة المعتقدات العامة ، و فطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها . عبد الرومان مدينة روما عبادة المتعصبين ، فسادوا على الدنيا أجمع ، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما ، و استمر المتبربرون الذين خربوا ملكها على همجيتهم حتى إذا رسخت بينهم بعض المعتقدات العامة وجد فيهم شئ من الامتزاج و التآلف و خرجوا من الفوضى . 
و عليه تعذر الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها ، إذ الحقيقة أن هذا التعصب هو أرقى الفضائل في حياة الأمم و إن كان مذموما من الجهة الفلسفية .
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوف من الناس إلا للدفاع عن معتقد موجود أو لإدخال معتقد عام جديد في النفوس . و ما مات الكثير من المخترعين و المبتدعين و الأسى ملئ قلوبهم إلا لأنهم لم ينالوا قسطا من العذاب لأجل تلك المعتقدات ، و ما اضطربت الدنيا مرة بعد مرة إلا للدفاع عنها ، و ماتت الملايين في سوح الوغى إلا بسببها ، و كذلك يكون في مستقبل الأيام . 
من الصعب غرس معتقد جديد ، لكنه بعد أن يتمكن من النفس يدوم شديد التأثير زمنا طويلا ، و كيفما كان خطأً من الجهة الفلسفية ، فإنه يتسلط على أكبر ذوي الألباب ، بدليل أن الأمم الأوروبية دانت للأقاصيص و اعتقدتها حقائق لا شك فيها خمسة عشر قرنا و المتأمل في تلك القصص يراها أحق بالقوم الهمج . و مع ذلك فلم يستطع عباقرة كمثل غاليلو غاليلي ( عالم فيزياء إيطالي ) و نيوتن (عالم فيزياء إنكليزي ) و لايبنيتز ( عالم فيزياء فرنسي ) أن يناقشوا حقيقية هذه الأفكار و الأقاصيص ، ذلك مما يبرهن على قوة استيلاء المعتقدات العامة و سحرها في النفوس ، و لكنه يبرهن أيضا على أن العقل محدود بحدود مخجلة . 
و متى ما تمكنت عقيدة جديدة من نفوس الجماعات أصبحت مصدر نظاماتها و مرجع فنونها و قاعدة سيرها . هنالك يستحكم سلطانها و تتم غلبتها ، فترة أهل العزائم لا يفكرون إلا في تحقيقها ، و واضعي القوانين إلا الأخذ بها ، و الفلاسفة و أرباب الفنون و الكتاب إلا في تمثيلها على صور شتى .
و قد يتولد عن العقيدة العامة أفكار وقتية ثانوية ، إلا أنها تكون على الدوام مصبوغة بصبغتها ، فقد تولدت حضارة المصريين و حضارة الأوروبيين و حضارة المسلمين في القرون الوسطى من عقائد دينية قليلة العدد ، طبعت كل عقيدة منها خاتمها على كل جزئية من جزئيات حضارتها و سهلت بذلك معرفتها .
من هذا يتبين أن الفضل للعقائد العامة في إحاطة أهل كل عصر بتقاليد و أفكار و عادات تقيدوا بها و صاروا متشابهين ، و الذي يهدي الناس في سيرهم إنما هي الأفكار و العادات المتولدة عن تلك العقائد ، فهي الحاكمة على أعمالنا جليلها و صغيرها ، و كيفما سمت مداركنا فإنا لا نفكر في الخلاص منها ، إذ الاستبداد الحقيقي هو الذي يدخل على النفوس من طريق الغرائز ، لأنه هو الذي لا يتمكن المء من محاربته ، فلقد كان ( تيبير ) و ( جنكيزخان ) و (نابليون) جبارين مستبدين ، و لكن استئثار موسى و بوذا و عيسى و محمد و لوثر و هم في القبور أشد و أبقى . 
ما كان بطلان العقائد العامة من حيث النظر و الفلسفة مانعا من استظهارها ، و قد يظهر أن فوزها مشروط بإحتوائها على شئ من الهزء الخفي . و إذا كانت مذاهب الاشتراكيين في العصر الحاضر واضحة الضعف ، فليس ضعفها هذا هو سبب عدم استيلائها على نفوس الجماعات ، و انما السبب في انحطاطها عن جميع العقائد الدينية راجع إلى أن السعادة التي وعدت بها الديانات لا اخقق إلا في الديار الباقية فلم يكن أحد يماري في تحقيقها . و أما السعادة التي وعد بها مذهب الاشتراكيين ، فإنها يجب أن تتحقق في الحياة الدنيا ، و متى شرع في ذلك بان أن الوعد خلب و سقط بذلك نفوذ العقيدة الجديدة ، و عليه فلا يعظم سلطان هذه العقيدة إن تم لها الظفر إلا إلى اليوم الذي يبدأ فيه بتحقيقها ، و ذلك هو السبب في أن هذا الدين الجديد له من قوة التخريب ما كان لغيره من الأديان التي سبقته ، و لكنه لن يكون له ما كان لها من قوة النبأ .

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...