Thursday 18 June 2020

مصطفى حجازي ، سايكلوجيا الانسان المقهور ، نظريات التخلف الجزء 2

الطريقة الاقتصادية في دراسة التخلف .
ركزت هذه الطريقة في مرحلة أولى على أدوات الإنتاج و مستواه ، متخذة منطلقا تقنيا صناعيا . ثم تطورت في مرحلة تالية للاهتمام بدراسة البنى الاقتصادية للبلد المتخلف ، و هو تطور يذهب في اتجاه مزيد من العمق و الشمول في البحث عن دينميات التخلف ، بينما اعتبرت المرحلة الاولى للتخلف مجرد مسألة تأخر تقني : بدائية في وسائل الانتاج ، ضآلة في مستوى التصنيع .

التخلف الصناعي و التقني .
يكاد التخلف يكون مرادفا لقلة التصنيع و بدائيته . هنالك سوء استغلال للثروات ، يصل الى حد انعدام الاستغلال ، و تبقى الوسائل الصناعية المستوردة ( الآلات و غيرها ) مكدسة يصيبها التلف بعد حين ، لعدم وجد من يستخدمخا أو لرداءة الصيانة .
يقول فالكووسي في كتابه ، مشكلات التنمية في العالم الثالث : إن البلد المتخلف يتميز يتصف بالطابع السكوني للاقتصاد . و هذا يعني مستوى منخفضا من القوى الانتاجية ، و بالتالي مستوى منخفضا من وسائل العمل و مهارة اليد العاملة . فوسائل الانتاج بدائية بشكل عام و هي لم تتغير منذ قرون مقارنة بالبلدان المتقدمة . و ينجم عن هذا وسائل انتجاية ضعيفة و دخل منخفص و هذا هو سبب ظاهرة الفقر و البؤس للسكان معيشيا . ان العلة بحسب هذه النظرية ترجع الى الافتقار الى الوسائل القادرة على رفع مستوى الانتاج و اليد العاملة الفنية و التي لا يمكن من غيرها الافادة من وسائل الانتاج الحديثة . و ينتج عن هذا انخفاض في الدافع الى التوظيف بسبب قلة الربح .
و لكن لا يفوت الباحث أن الانخفاض في مستوى القوة الانتاجية لا يرجع فقط الى الافتقار الى الوسائل القادرة على رفع مستوى الانتاج و اليد العاملة ، و إنما يرجع أساسا الى البنية الاجتماعية ، و بالنظام الاجتماعي السائد ، و هو عادة من النوع الاقطاعي الذي تندر فيه التحولات الرأسمالية . إن ربط المستوى التقني بالبنية الاجتماعية و النظام الاجتماعي السائد بالإضافة الى ضرورته ، يضعةالمشكلة في إطارها الصحيح ، فالعلاقات الانتاجية الاقطاعية لا تسمح بالتطوير الاجتماعي ، لذبك فهي تمثل المعرقل الأساسي لعملية النمو .
و إذا أتينا لتعريف المؤلف لخصائص الاقتصاد المتخلف الذي يقول : إنه اقتصاد لا يكفي مجموع رؤوس الأموال المتوفرة فيه ، لاستخدام اليد العاملة المتاحة ، على أساس التقنية الحديثة للإنتاج و لا لاستثمار الثروات الطبيعية . واضح أن هذا التعريف يركز على مشكلة رأس المال من ناحية و على أدوات الانتاج من ناحية أخرى ، و لكنه لا يأخذ بنظر الاعتبار أن رأس المال المتوفر أحيانا ، كما في بعض الدول النامية الغنية ، لا يوظف بطريقة انتاجية ، و إنما يصرف لأغراض استهلاكية . أما مسألة بدائية وسائل الانتاج فهي فما هي الا نتائج لعوامل أعمق منها ، عوامل اجتماعية تضرب في جذورها في عمق المجتمع المتخلف .
إن البلدان النامية لا تفتقر الى الصناعة المتطورة و لا إلى الزراعة المتطورة كليا ، حيث أن هذه البلدان الظروف التي كانت فيها تختلف تماما عن الظروف التي كانت قائمة في البلدان الصناعية قبل الثورة الصناعية .
على المستوى الصناعي يقول العالم لاكوست بوجود تناقض صارخ بين قطاع الحرف ذات الطرق البدائية و بين القطاع الاقتصادي ، و الانفصال بينهما شبه تام . فالحرف موجهة لسكان البلد نفسه ، أما القطاع الصناعي فهو يخص القلة ، و هو متوجه الى الخارج أساسا ، من حيث الاستيراد و التصدير و موارد الأرباح . فالقطاع الصناعي معزول تماما عن المجتمع و بالتالي ليس له تأثير في تغيير بنية المجتمع الاجتماعية . كما أن مردوده المالي لا يرجع على المستوى الشعبي رخاءاً و ازدهاراً و إنما يذهب في أيدي القلة القليلة . 
أما في البلاد المتقدمة ، فالتصنيع ظاهرة شاملة ، متنوعة و متماسكة و تراكمية . فهي تشمل مختلف قطاعات  السكان ، و تنعكس عليهم و على نمط حياتهم . و هي متماسكة فيما بينها فهنالك تكامل بين الالات و المواصلا و النظم الحسابية ، و تراكمية بمعنى أن الآلات تنتج آلات أخرى ، تطورها و تزيد فعاليتها . ذلك هو الفرق بين الصناعة في البلدان المتقدمة و البلدان المتخلفة . 
إذن نستنتج أن التخلف و القصور في الصناعة لا يرجع فقط الى قصور في الإمكانات فقط ، أي في وسائل الانتاج و اليد العاملة ، و إنما ينتج عن بنية اجتماعية متصلبة تشل النمو الصناعي و هذا هو السبب الرئيس للقصور و التخلف الصناعي ، و ليس نقص وسائل الانتاج و اليد العاملة إلا نتيجة من نتائجه .

Friday 12 June 2020

مصطفى حجازي ، سايكلوجيا الانسان المقهور ، نظريات التخلف الجزء 1

الطريقة السطحية في دراسة التخلف : 
 الطريقة الأكثر قدما و شيوعا لدراسة التخلف في رأي واضعي دائرة المعارف العالية هي التي تعرف الظاهرة بأغراضها . و النموذج عليها : الأبحاث و الكتابات التي نشرتها الأمم المتحدة . فمن مميزات التخلف مثلا : الفقر ، حالة التغذية ، الحالة الصحية ، التعليم ، و أهمها على الإطلاق متوسط الدخل الفردي . و هنا تنقسم البلاد الى عدة فئات ، من الاكثر تخلفا الى الاكثر تقدما . فالباد من الفئة الاولى ، هي التي يقل دخل الفرد فيها عن 100 دولار سنويا . اما البلاد النامية فيتراوح الدخل فيها ما بين 100 الى 300 دولار و هي البلدان التي تضم النسبة الكبرى من سكان الكرة الارضية . و هناك بلاد على طريق النمو يتراوح الدخل فيها ما بين 300 الى 1000 دولار ، و أخيرا البلدان الصناعية المتقدمة و يتجاوز الدخل فيها 1000 دولار .
إلا أن مؤشر الدخل القومي مقسما على عدد السكان مضلل جدا . فهو من ناحية لا يبين التشتت الكبير في مستوى مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع . فالدخل لا يتوزع مطلقا بالتساوي . هناك فئة قليلة تحظى بالنسبة الأكبر من الدخل ، و تعيش فوق مستوى الفئة المماثلة لها في البلاد المتقدمة ، و هي في حالة من البذخ المادي المفرط . بينما الغالبية الكبرى من السكان تعيش دون مستوى الكفاف ، دون الحد الأدنى الحيوي . و من ناحية اخرى فهنالك ظاهرة الغنى المفاجئ في الدول البترولية ، دون أن تعكس هذه الثروة تطورا في البنى الاقتصادية و الاجتماعية يرتقي بها الى مستوى التقدم . هذه الثورة وليدة قطاع محدود و معزول عن بقية قطاعات الانتاج التي تظل متخلفة و بدائية . ثم إن استخدام الثروات النفطية ما زال ، في كثير من حالاته و في نسبة مهمة منه ، من النوع المتخلف ( الاستهلاك الدخلي للسلع المستوردة أو التوظيف في الخارج ) .
أما لاكوست فيلخص المحكات السطحية للتخلف في ثلاثة : الدخل القومي للفرد بالمتوسط ، الوحدات الحرارية المستهلكة في التغذية ، مستوى التعليم أو نسبة انتشار الامية . هذه المحكات لا تتوافق دائما فيما بينها . فالدخل القومي قد يكون كبيرا و لكن التغذية سيئة او العكس . و من رأيه أن الجوع هو أخطر أعراض التخلف و اكثرها عمومية ، فهو يميز مجمل الباد النامية ، فثلاثة أرباع البشرية تعاني من سوء التغذية . 
و تزداد المشكلة خطورة بسبب التفاوت الهائل في المستوى المعيشي و الغذائي للسكان . فهنالك قلة تستهلك اكثر بكثير مما يجب من الوحدات الحرارية . و لكن الغالبة العظمى من السكان تعاني من نقص الغذاء . 
يضاف الى ذلك و يضاعف من خطورته انحسار زراعة المواد المعيشية ، و تحول قسم مهم من الزراعة الى التصدير الخارجي ، مما يحرم غالبية السكان من المواد الغذائية الضرورية ، يضاف الى ذلك سوء توزيع الثروة و الغذاء داخليا ، و هو انعدام التكافؤ في عمليات التبادل الدولي بين المنتجات الزراعية و المنتجات المصنعة لمصلحة البلدان المتقدمة . 
لا تساعد النظرية السطحية على حسن التشخيص ووضع السياسات التنموية الملائمة .تعرف الطريقة السطحية التخلف إذا كظاهرة دونية اساسا ، فالبلد المتخلف هو أقل مستوى من بقية البلدان من حيث تأمين الحاجات الحيوية الضرورية للإنسان و مستوى انجازاته الاقتصادية و التقنية منخفض . و لكن هذا التعريف لا يستقيم نظرا لعدم توحيد المعايير من ناحية ، و لصعوبة المقارنة بين البلدان المتقدمة و النامية من ناحية اخرى ، و لوجود بلدان غنية حاليا ، و لكنها ما زالت متخلفة اجتماعيا من ناحية ثالثة . اذن لا بد من دراسة نوعية البنى الاقتصادية و الاجتماعية لبلد ما كي نحدد التخلف .

Thursday 11 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 29

أقسام الجماعات : 
بعد أن بينا الصفات العامة للجماعات النفسية ينبغي أن نبين الصفات الخاصة التي تنفرد بها المجاميع عن بعضها إذا صارت جماعات بتأثير الأسباب المؤدية الى ذلك . 
و لنبدأ بقول موجز في تقسيم الجماعات . 
فأولها الجمع مطلقا و أدنى مراتبه ما كان مؤلفا من أفراد ليسوا من شعب واحد و لا رابطة بينهم إلا إرادة رئيسهم بقدر ماله من المنزلة فيهم . و يمكن التمثيل لهذه المجاميع بالمتبربرين مختلفي الأصول الذين أغاروا على الأمبراطورية الرومانية مدة قرون عدة . و يليها الجموع التي احتفتها أحوال و عوامل ولدت فيها صفات عامة و انتهت بأن صارت شعبا واحدا ، و لهذه الجموع في بعض الأحيان الصفات الخاصة بالجماعات ، إلا أن هذه الصفات الخاصة تكون دائما متأثرة بصفات الشعب العامة . 
فإذا اجتمعت في هذه المجاميع بقسميها العوامل التي ذكرناها صارت جماعات منظمة أو نفسية ، و هذه الجماعات تنقسم إلى الأقسام التالية : 
أولا : الجماعات مختلفة العناصر و فيها : 
1- الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الطريق العام 
2- الجماعات التي لها اسم خاص كالعدول المحلفين و المجالس النيابية و هكذا .
ثانيا : الجماعات المؤتلفة العناصر و فيها : 
1- الأفناء كالجموع السياسية و الدينية و العسكرية 
2-الطوائف كالجموع العسكرية و رؤساء الدين و العمال و هكذا 
3-الطبقات كجموع الأواسط و جموع أهل الريف و هكذا .
و إليك قولا موجزا في بيان مميزات كل نوع من هذه الأنواع : 
القسم الأول : الجماعات مختلفة العناصر : هذه الجموع تتألف من أفراد أيا كانوا و كيفما كانت حرفتهم و عقولهم . و نحن الآن نعرف أنه متى اجتمع قوم و كونوا جماعة عاملة اختلفت أحوالهم النفسية و الاجتماعية مع أحوالهم النفسية الفردية اختلافا عظيما ، و أن العقل لا يمنع من هذا الاختلاف لأنه لا تأثير  له في الجماعات ، و أن الذي يؤثر في الجماعات هو المشاعر الغريزية . 
و من العوامل الأصلية ما يسهل معه تمييز الجماعات المختلفة العناصر تمييزا تاما و هو الشعب ، و قد ذكرناه مرارا و قلنا أنه أعظم المؤثرات التي تنبعث عنها أفعال الناس . و إن له له تأثيرا في صفات الجماعات . 
و عليه تحكم روح الشعب دائما روح الجماعة ، فهي لها كالدائرة المنيعة التي تنظم تقلباتها و تحدد حركاتها ، و من هنا ينبغي أن نقرر القاعدة الآتية : تكون الصفات المنحطة في الجماعة ضعيفة بقدر ما تكون روح الشعب قوية ، فحالة الجماعة هي الهمجية و تسلطها رجوع للعمجية ، و لا يخرج الشعب من الهمجية و يتخلص من سلطة الجماعات التي لا يحكمها العقل إلا إذا كانت له روح قوية شديدة ، و ذلك يتأنى بالتدريج .
و يلي الجماعات المتقدمة الذكر الجماعات التي لا اسم لها كجماعات الشوارع ، ثم الجماعات التي لها اسم ، تعرف به، كجماعات العدول و المجالس النيابية ، و الذي يوجب اختلاف هذين النوعين غالباةفي انفعالهمة هو أن الاولى لا تشعر بتبعة ما نتح عن أعمالها بخلاف الثانية ، فإنها تقدر تبعة عملها كما ينبغي . 
القسم الثاني : الجماعات المؤتلفة العناصر 
تفترق الجماعات المؤتلفة العناصر إلى أفناء و طوائف ، فالأفماء أول المراتب ، و هي تتألف من أفراد مختلفين في التربية و الحرفة و البيئة أحيانا و لا جامعة تجمعهم إلا وحدة الاعتقاد ، و من هذا النوع الأفناء السياسية و الأفناء الدينية .
و الطوائف أرقاها ، و هي تتألف من أفراد متحدين في الحرفة ، فهم متشابهون في التربية و البيئة كجماعة الجند و جماعة الروساء الروحانيين .
و الطبقات هي التي أفرادها من مناشئ مختلفة اجتمعوا لا بجامعة الاعتقاد كالأفناء و لا بجامعة وحدة الحرف كالطوائف ، بل بجامعة المنافع و الشبه في حالة المعيشة و التربية كطبقة الأواسط في الأمة و طبقة الزراع ... و هكذا .

Wednesday 10 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 28

سنتحدث عن ما للجماعات من الأفكار غير الثابتة . يوجد فوق سطح العقائد الثابتة التي شرحنا تأثيرها العظيم طبقة من الأفكار و الآراء التي تتجدد و تزول دائما ، فمنها ما يدوم يوما واحدا ، و أهمها لا يدوم أكثر من الجيل الذي نشأ فيه . أن التغيير الذي يطرأ على هذه الأفكار صوري أكثر مما هو حقيقي في الغالب ، و أنها مصبوغة على الدوام بصبغة الشعب الذي توجد فيه . و في الحقيقة أن وضع الأسماء للأفكار و إلباس الشئ ثوبا يريه غير صورته الحقيقية لا يغير من حقيقة ذلك الشيء . 
و الحقيقة أن مثل هذه التقلبات ليست إلا صورية غير حقيقية ، و أن مثل هذه التقلبات ليست في مجال العادات و التقاليد و السياسة فقط بل حتى في الأفكار و في الأدب و الفنون و الفلسفة ، كان الناس يتغنون باسم هذا الكاتب أو ذلك المصور في المساء ، فإذا أصبح الصباح حقروه و رذلوه . 
و إذا دققنا البحث في هذه التقلبات التي يخال أنها حقيقية متأصلة في النفس رأينا أن ما كان منها مخالفا للاعتقادات العامة و مشاعر الشعب ، فهو زائل لا يدوم إلا يسيرا ، و لا تلبث المياه أن تعود الى مجاريها ، فمن المعلوم أنه يستحيل دوام الأفكار التي لا رابطة بينها هي و المعتقدات العامة و مشاعر الشعب ، لأنها معرضة لتأثير الطوارئ و الاتفاق تتغير بأقل تغيير في البيئة التي وجدت فيها . و مما يدل أيضا على عدم بقائها أنها تولدت من طريق الإلقاء و العدوى ، فهي تولد ثم تموت بسرع  الرمل الذي يتكون أكداسا على شاطئ البحر ثم تذهب به الريح ثم تعيده ... و هكذا .
و لقد كثرت في أيامنا هذه أفكار الجماعات التي لا بقاء لها ، و لذلك ثلاثة أسباب : 
الأول : أن الاعتقادات القديمة أخذت تضعف شيئا فشيئا ، فلم تعد تؤثر في الأفكار العرضية تأثيرا ينظمها و يهديها ، و ضعف تلك الاعتقادات العامة من شأنه أن يفسح المجال لتولد أفكار خاصة لا رابطة بينها و الماضي ، و لا يرجى بقائها في المستقبل .
السبب الثاني : أم قوة الجماعات تزداد شيئا فشيئا ، و القوة المضادة تضعف بمقدار ذلك ، و قد عرفنا أن الجماعات كثيرة التقلب في أفكارها ، فالنتيجة أنها صارت أكثر حرية في إظهار تلك الأفكار المتقلبة .
السبب الثالث : هو كثرة انتشار المطبوعات لما فيها من كثرة الأفكار المتناقضة التي تعرضها على الجماعات . فالفكرة لا تكاد تظهر حتى تبطل بظهور فكرة تخالفها ، و ما من فكر ينتشر تماما و كلها محكوم عليها بسرعة الزوال ، فهي تموت قبل أن تنتشر انتشارا يثبتها و يجعلها معتقدا عاما . 
من تلك الأسباب تولدت ظاهرة جديدة في تاريخ البشر ينفرد بها العصر الحاضر ، و هي ضعف الحكومات عن قيادة الرأي العام . 
كان زمام الرأي في الزمن السابق ما هو في يد الحكومات و بعض ذوي النفوذ من الكتاب ، و عدد مخصوص من الجرائد : فأما الكتاب فقد انعدم تأثيرهم ، و أما الجرائد فإن وظيفتها أصبحت قاصرة عن أن تكون مرآة للرأي ، و أما السياسيون فإنهم لا يديرونه بل يسيرون خلفه ، و قد أخذتهم منه رهبة تكاد أحيانا تبلغ حد الذعر و الانذهال ، فهم لا يثبتون في أي طريق يسلكون . 


Tuesday 9 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 27

أدركت الأمم على الدوام فائدة المعتقدات العامة ، و فطنت إلى أن يوم زوالها هو يوم بدء سقوطها . عبد الرومان مدينة روما عبادة المتعصبين ، فسادوا على الدنيا أجمع ، فلما انطفأ هذا الاعتقاد ماتت مدينة روما ، و استمر المتبربرون الذين خربوا ملكها على همجيتهم حتى إذا رسخت بينهم بعض المعتقدات العامة وجد فيهم شئ من الامتزاج و التآلف و خرجوا من الفوضى . 
و عليه تعذر الأمم في دفاعها المستميت عن معتقداتها ، إذ الحقيقة أن هذا التعصب هو أرقى الفضائل في حياة الأمم و إن كان مذموما من الجهة الفلسفية .
ما أحرق أهل القرون الوسطى الألوف من الناس إلا للدفاع عن معتقد موجود أو لإدخال معتقد عام جديد في النفوس . و ما مات الكثير من المخترعين و المبتدعين و الأسى ملئ قلوبهم إلا لأنهم لم ينالوا قسطا من العذاب لأجل تلك المعتقدات ، و ما اضطربت الدنيا مرة بعد مرة إلا للدفاع عنها ، و ماتت الملايين في سوح الوغى إلا بسببها ، و كذلك يكون في مستقبل الأيام . 
من الصعب غرس معتقد جديد ، لكنه بعد أن يتمكن من النفس يدوم شديد التأثير زمنا طويلا ، و كيفما كان خطأً من الجهة الفلسفية ، فإنه يتسلط على أكبر ذوي الألباب ، بدليل أن الأمم الأوروبية دانت للأقاصيص و اعتقدتها حقائق لا شك فيها خمسة عشر قرنا و المتأمل في تلك القصص يراها أحق بالقوم الهمج . و مع ذلك فلم يستطع عباقرة كمثل غاليلو غاليلي ( عالم فيزياء إيطالي ) و نيوتن (عالم فيزياء إنكليزي ) و لايبنيتز ( عالم فيزياء فرنسي ) أن يناقشوا حقيقية هذه الأفكار و الأقاصيص ، ذلك مما يبرهن على قوة استيلاء المعتقدات العامة و سحرها في النفوس ، و لكنه يبرهن أيضا على أن العقل محدود بحدود مخجلة . 
و متى ما تمكنت عقيدة جديدة من نفوس الجماعات أصبحت مصدر نظاماتها و مرجع فنونها و قاعدة سيرها . هنالك يستحكم سلطانها و تتم غلبتها ، فترة أهل العزائم لا يفكرون إلا في تحقيقها ، و واضعي القوانين إلا الأخذ بها ، و الفلاسفة و أرباب الفنون و الكتاب إلا في تمثيلها على صور شتى .
و قد يتولد عن العقيدة العامة أفكار وقتية ثانوية ، إلا أنها تكون على الدوام مصبوغة بصبغتها ، فقد تولدت حضارة المصريين و حضارة الأوروبيين و حضارة المسلمين في القرون الوسطى من عقائد دينية قليلة العدد ، طبعت كل عقيدة منها خاتمها على كل جزئية من جزئيات حضارتها و سهلت بذلك معرفتها .
من هذا يتبين أن الفضل للعقائد العامة في إحاطة أهل كل عصر بتقاليد و أفكار و عادات تقيدوا بها و صاروا متشابهين ، و الذي يهدي الناس في سيرهم إنما هي الأفكار و العادات المتولدة عن تلك العقائد ، فهي الحاكمة على أعمالنا جليلها و صغيرها ، و كيفما سمت مداركنا فإنا لا نفكر في الخلاص منها ، إذ الاستبداد الحقيقي هو الذي يدخل على النفوس من طريق الغرائز ، لأنه هو الذي لا يتمكن المء من محاربته ، فلقد كان ( تيبير ) و ( جنكيزخان ) و (نابليون) جبارين مستبدين ، و لكن استئثار موسى و بوذا و عيسى و محمد و لوثر و هم في القبور أشد و أبقى . 
ما كان بطلان العقائد العامة من حيث النظر و الفلسفة مانعا من استظهارها ، و قد يظهر أن فوزها مشروط بإحتوائها على شئ من الهزء الخفي . و إذا كانت مذاهب الاشتراكيين في العصر الحاضر واضحة الضعف ، فليس ضعفها هذا هو سبب عدم استيلائها على نفوس الجماعات ، و انما السبب في انحطاطها عن جميع العقائد الدينية راجع إلى أن السعادة التي وعدت بها الديانات لا اخقق إلا في الديار الباقية فلم يكن أحد يماري في تحقيقها . و أما السعادة التي وعد بها مذهب الاشتراكيين ، فإنها يجب أن تتحقق في الحياة الدنيا ، و متى شرع في ذلك بان أن الوعد خلب و سقط بذلك نفوذ العقيدة الجديدة ، و عليه فلا يعظم سلطان هذه العقيدة إن تم لها الظفر إلا إلى اليوم الذي يبدأ فيه بتحقيقها ، و ذلك هو السبب في أن هذا الدين الجديد له من قوة التخريب ما كان لغيره من الأديان التي سبقته ، و لكنه لن يكون له ما كان لها من قوة النبأ .

Monday 8 June 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 26

حدود تقلب معتقدات الجماعات و أفكارها : 
نبدأ في المعتقدات الثابتة . يوجد بين الخواص التشريحية أي الجسمانية و الخواص النفسية تشابه تام ، فمن الأولى ما هو ثابت أو لا يتغير إلا ببطئ شديد بحيث يلزم لتغييره زمن كالذي بيننا و بين الطوفان ، و منها ما هو متقلب يتغير بالسهولة من أثر البيئة أو المربي ، و قد يبلغ التغيير درجة تختفي فيها الخواص الاصلية على غير المتأمل . 
و كذلك الحال في الخواص الأدبية ، فمن أخلاق الشعب ما هو ثابت لا يغيره كرور الأيام ، و منها ما هو متقلب يتغير . و من ينعم النظر في معتقدات الأمم و أفكارها يرى دائما في أخلاقها أصلا ثابتا ترسب فوقه أفكار متقلبة كما ترسب الرمال فوق الصخر . 
و عليه تنقسم معتقدات الجماعات الى قسمين : الأول المعتقدات الدائمة التي تعمر عدة قرون ، و اليها ترجع مدنية الأمة كلها كالأفكار المسيحية و أفكار الإصلاح ( البروتستانتي ) و الأفكار الديمقراطية و الاجتماعية في أيامنا . و القسم الثاني يشمل الأفكار الوقتية المتغيرة ، و هي مشتقة في الغالب من الأفكار العامة تظهر و تغيب في الجيل الواحد كالنظريات التي تسترشد بها الفنون و الأدب في أوقات معلومة ، و مذهب حرية الكتابة و مذهب الطبيعيين و الصوفيين و غيرها . و تلك الأفكار كلها سطحية سريعة التغير ، فمثلها كمثل الأمواج الصغيرة التي تظهر و تختفي من دون انقطاع على سطح بحيرة عميقة . 
المعتقدات الكبيرة العامة قليلة جدا ، و قيامها و سقوطها في كل أمة ذات تاريخ يمثلان أعظم دور في حياتها ، و لا قوام للمدنية بدونها . 
و من السهل جدا إيجاد فكر وقتي في عقول الجماعات ، لكن من الصعب جدا تقرير معتقد دائم في نفوسها ، كما أنه من الصعب جدا هدم اعتقاد تمكن منها ، و لا سبيل الى التغيير غالبا الا بالثورات العنيفة ، بل إن الثورة لا تؤدي إلى ذلك إلا إذا اضمحل قبلها أثر المعتقد في النفوس ، فهي تصلح لكسح تلك البقية التي لا تكون في حكم المهمل لولا أن سلطان العادة يمنع من الإقلاع عنها بالمرة ، فالثورة التي تقبل عبارة عن معتقد يدبر .
و من السهل تجديد اليوم الذي يندك فيه أحد المعتقدات الكبرى ، ذلك هو يوم يؤخذ الناس بالبحث في قيمة هذا الاعتقاد ، لأن كل اعتقاد عام يكاد يكون أمرا فرضيا ، فهو لا يحتمل البقاء إلا بشرط عدم البحث فيه .
غير أن النظامات التي أسست على إعتقاد عام تستمر حافظة لقوتها و لا تتحلل إلا ببطئ ، و إن تزعزع ذلك الاعتقاد ، فإذا تم له الهدم تساقط ما بني عليه .
و مما قضت به سنة الوجود حتى الآن أن كل أمة أصبحت متمكنة من تغيير معتقداتها لا بد لها عاجلا من تغيير جميع أركان حضارتها ، فهي تغير و تبدل فيها حتى تهتدي الى معتقد جديد عام ترضاه النفوس و تعيش في فوضى حتى تعثر عليه ، فالمعتقدات العامة هي دعائم الحضارة التي لا بد منها ، و هي التي ترسم للأفكار طريقها الذي تسير فيه ، و هي التي توحي بالإيمان و تفرض الواجبات .



Saturday 30 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 25

كنا قد تحدثنا عن ما للنفوذ من تأثير في الجماعات سواء كان ذلك النفوذ لرجال أو أفكار أو آلهة . في الحقيقة تحتاج الجماعات دائما و الافراد غالبا الى آراء حاضرة في جميع المباحث ، و انتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ ، بل مرجعه ما لها من النفوذ . 
ننتقل الآن الى النفوذ الشخصي و هو يختلف مع النفوذ المكتسب ، لأنه صفة تنفرد عن كل لقب و كل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم و يجذبونها إليهم كالمغناطيس ، و إن ساووهم منزلة بين أمتهم ، و لم يكن لهم شئ من وسائل التسلط و الغلبة و يبثون فيهم أفكارهم و ينقلون إليهم مشاعرهم ، و أولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مروّضه و إن كان في استطاعته افتراسه بسهولة لو أراد .
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قادة الجماعات مثل بوذا و عيسى و محمد و جان دارك و نابليون ، و هو السبب في تمكنهم ، فإنما تتسلط الآلهة و الأبطال و المذاهب تسلطا لا دخول للمناظرة فيه ، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه . 
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم ، و تلك القوة هي السبب في شهرتهم ، فلما بلغ نابليون مثلا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منَعَته و سلطانه ، إلا أنه كان له شئ منه يوم لم يكن له من السلطة و لم يكن معروفا عند أحد ، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال) ، و كان لا يزال مجهولا عهد اليه من كان مستضعفا له بقيادة الجيش الفرنسي المحارب في بلاد ايطاليا ، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء ، و كانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلا بينهم ، و لكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول تلقائه بهم بلا كلام و لا إشارة و لا وعيد ، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء . 
لا يقوم النفوذ بالتأثير الشخصي و الفخار العسكري ، و الرهبة الدينية دون سواها ، بل يجوز أن يتسبب عن أمر أصغر منها بكثير ، و يكون مع ذلك شديدا .
إن الناس يقلدون ذا النفوذ عمدا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانا أو رأيا أو شيئا آخر . و يتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها و يترجمون عما به يشعرون و يكون التقليد في الغالب فطريا ، لذلك يبلغ حد الكمال و الاتقان . 
إن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح ، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس و بطلت معارضتهم له ، و كذلك الفكر إذا تمكن من العقول ، و الدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك ، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر و يسخرون منه في الصباح إذا قلب له الزمان ظهر المجن . و بقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة ، فترا الجماعة من أندادها ، فتميل الى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشئ منه . هكذا كان نفوذ روبسبير ( أحد قادة الثورة الفرنسية ) شديدا يوم كان يقطع رؤوس زملائه و رؤوس الكثير من معاصريه ، فلما ضاعت منه الاصوات وقت الانتخاب و سقط من مركزه فارقه ذلك النفوذ لساعته و شيّعته الجماعة الى المشنقة و هي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه . و من عبد الآلهة و زاغ عنها كاد يقتله الغضب و هو يحطم الأصنام . 
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة ، و قد يذهب النفوذ بالبحث فيه ، لكن ذلك لا يتم بالتدريج ، و هذه الوسيلة هي أضمن وسيلة لإضاعته ، و ما من انسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه ، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها . 

Roman history part 10, the second Punic war 6

In the aftermath of capturing Terentum. The city of thory sent to Hanniabl  appealing to him to librate them from the Roman rule. Hannibal s...