Saturday 30 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 25

كنا قد تحدثنا عن ما للنفوذ من تأثير في الجماعات سواء كان ذلك النفوذ لرجال أو أفكار أو آلهة . في الحقيقة تحتاج الجماعات دائما و الافراد غالبا الى آراء حاضرة في جميع المباحث ، و انتشار هذه الآراء غير مرتبط بما اشتملت عليه من الصواب أو الخطأ ، بل مرجعه ما لها من النفوذ . 
ننتقل الآن الى النفوذ الشخصي و هو يختلف مع النفوذ المكتسب ، لأنه صفة تنفرد عن كل لقب و كل وظيفة يتصف بها أفراد معدودون فيبهرون بها نفوس من حولهم و يجذبونها إليهم كالمغناطيس ، و إن ساووهم منزلة بين أمتهم ، و لم يكن لهم شئ من وسائل التسلط و الغلبة و يبثون فيهم أفكارهم و ينقلون إليهم مشاعرهم ، و أولئك يطيعون أمرهم كما يطيع الحيوان المفترس أوامر مروّضه و إن كان في استطاعته افتراسه بسهولة لو أراد .
كان هذا النفوذ الكبير لجميع العظماء من قادة الجماعات مثل بوذا و عيسى و محمد و جان دارك و نابليون ، و هو السبب في تمكنهم ، فإنما تتسلط الآلهة و الأبطال و المذاهب تسلطا لا دخول للمناظرة فيه ، بل ذلك السلطان يزول إذا بحث فيه . 
كان أولئك العظماء ذوي قوة أخاذة قبل اشتهارهم ، و تلك القوة هي السبب في شهرتهم ، فلما بلغ نابليون مثلا ذروة المعالي كان له نفوذ شامل بمقتضى منَعَته و سلطانه ، إلا أنه كان له شئ منه يوم لم يكن له من السلطة و لم يكن معروفا عند أحد ، فلما ترقى إلى رتبة لواء (جنرال) ، و كان لا يزال مجهولا عهد اليه من كان مستضعفا له بقيادة الجيش الفرنسي المحارب في بلاد ايطاليا ، فوجد نفسه بين لواءات عتاة أشداء ، و كانوا قد أجمعوا أمرهم على الإغلاظ له في المقابلة لاعتبارهم إياه دخيلا بينهم ، و لكنه ما عتم أن أخذ بزمامهم من أول تلقائه بهم بلا كلام و لا إشارة و لا وعيد ، بل بأول نظرة من ذلك الذي قدر له أن يكون من العظماء . 
لا يقوم النفوذ بالتأثير الشخصي و الفخار العسكري ، و الرهبة الدينية دون سواها ، بل يجوز أن يتسبب عن أمر أصغر منها بكثير ، و يكون مع ذلك شديدا .
إن الناس يقلدون ذا النفوذ عمدا أو بمحض الفطرة سواء كان إنسانا أو رأيا أو شيئا آخر . و يتولد في أهل عصر من قلدوه طريقة مخصوصة يحسون بها و يترجمون عما به يشعرون و يكون التقليد في الغالب فطريا ، لذلك يبلغ حد الكمال و الاتقان . 
إن النفوذ يتكون بعوامل شتى أهمها النجاح ، فمتى نجح الآمر في أمره دانت له الناس و بطلت معارضتهم له ، و كذلك الفكر إذا تمكن من العقول ، و الدليل على أن النجاح أقوى عامل في تحصيل النفوذ أن هذا يذهب بذهاب ذاك ، فالناس يهللون في المساء لبطل كلل بالنصر و يسخرون منه في الصباح إذا قلب له الزمان ظهر المجن . و بقدر النفوذ يكون انعكاس الرأي في صاحبه إذا تولته الخيبة ، فترا الجماعة من أندادها ، فتميل الى الانتقام منه جزاء ذلها أمام سلطانه الذي لم تعد تعترف له بشئ منه . هكذا كان نفوذ روبسبير ( أحد قادة الثورة الفرنسية ) شديدا يوم كان يقطع رؤوس زملائه و رؤوس الكثير من معاصريه ، فلما ضاعت منه الاصوات وقت الانتخاب و سقط من مركزه فارقه ذلك النفوذ لساعته و شيّعته الجماعة الى المشنقة و هي تتميز من الغيظ كما كانت تشيع بالأمس ضحاياه . و من عبد الآلهة و زاغ عنها كاد يقتله الغضب و هو يحطم الأصنام . 
يذهب الخذلان بالنفوذ فجأة ، و قد يذهب النفوذ بالبحث فيه ، لكن ذلك لا يتم بالتدريج ، و هذه الوسيلة هي أضمن وسيلة لإضاعته ، و ما من انسان دام له النفوذ زمنا طويلا إلا كان لا يحتمل المناظرة فيه ، إنما تعجب الجماعات بمن يترفع عن مقامها . 

Wednesday 27 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 24

مما يساعد كثيرا على قوة تأثير الأفكار التي بثت في الجماعات بواسطة التوكيد و التكرار و العدوى كونها تنتهي بإكتساب قوة خفية تسمى النفوذ .
للنفوذ قوة لا تقف أمامها قوة أخرى ، و كل سلطة سادت في الوجود سواء كانت سلطة لأفكار أو رجال ، فهو السبب في قيامها و سيادتها . و النفوذ كلمة يعرف الجميع معناها و لكنها تستعمل استعمالات كثيرة ، و لذلك لم يكن من السهل تعريفها .
و قد يجتمع النفوذ مع بعض المشاعر كالإعجاب أو الرهبة ، و ربما كان الإثنان أصلا له في أحوال كثيرة ، إلا أنه قد يوجد بدونهما مثل نفوذ الذين ماتوا ، فإنه لا محل للخوف منهم ، و دليل ذلك أن أكثر من نشعر بنفوذه فينا هم الذين ارتحلوا عن الدنيا و لم نعد نخاف منهم مثل الإسكندر و قيصر و محمد و بوذا . كذلك لبعض الكائنات أو البدع تأثير في النفوس ، و إن كان مما لا يعجب به كالألهة المنغوليين الذين يوجدون في معابد الهند تحت سطح الأرض .
يمكن أن النفوذ عبارة عن سلطة رجل أو عمل أو فكر يستولي بها على العقول ، و تلك السلطة تعطل ملكة النقد فتملأ النفس اندهاشا و احتراما ، و لا يمكن تفسير الشعور الذي يحدث منه كما هو الشأن في كل شعور ، إلا أنه لا بد أن يكون من جنس الاجتذاب الذي يحدث في نفس الشخص النائم نوما مغناطيسيا . و النفوذ أعظم مقوم لكل سيادة في العالم .
ثم أن النفوذ أنواع يمكن حصرها في قسمين : النفوذ المكتسب و النفوذ الشخصي ، فالأول هو الذي يرجع لاسم صاحبه أو ثروته أو شهرته ، و قد يكون منفصلا عن النفوذ الشخصي ، و أما النفوذ الشخصي فهو أمر ذاتي قد يجتمع مع الشهرة و المجد و الثروة و يشتد بانضمامها اليه ، و قد يكون وحده . 
و أكثر النوعين شيوعا هو النفوذ المكتسب أو العرضي ، فهو يثبت للرجل بمجرد كونه مركزا أو يملك ثروة أو يتحلى ببعض الألقاب ، و إن لم يكن له قيمة من نفسه : فللجندي في لباسه و للقاضي في زيه الرسمي نفوذ ما ارتديا لباسهما ، و لذلك أمر باسكال بضرورة الجبة و الشعر للقضاة و لولا الجبة و الشعر لفقدوا ثلاثة أرباع نفوذهم .
و النفوذ الذي أشرنا اليه خاص بالانسان ، و بجانبه يوجد النفوذ الذي يكون للافكار أو الأدبيات أو الفنيات و غير ذلك و هو في الغالب ناشئ من التكرار ، و ما التاريخ و بالأخص تاريخ الآداب و الفنون إلا تكرار رأي سبق و لم يعارضه أحد ، فيؤول الأمر إلى أن كل واحد يكرر ما قرأ في المدرسة ، و هنالك من الأشياء و الأسماء مما لا يجرؤ أحد على الحديث فيها ، فمما لا شبهة فيه أن مطالعة الإلياذة و الأوديسة للشاعر اليوناني هوميروس تورث قراء هذا الزمان مللا شديدا إلا أنه لا يجرؤ أحد القول به ، و البارتينون أصبح اليوم خرابة تراكمت فيها الأنقاض و لا فائدة منها إلا أن نفوذه لا يزال قويا ، حتى أنهم لا يبصرونه كما هو الآن ، بل كما كان في القدم محفوفا بأبهته و فخامته ، فمن خواص النفوذ أن لا يجعل الإنسان يرى الشئ على حقيقته و أن يعطل فيه ملكة النقد و التمييز .

Saturday 23 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 23

قد بينا أنه متى ما كثر تكرار امر معين و أجمع عليه المكررون ، انتقل هذا الأمر بالعدوى . و لا يجب في العدوى وجود أفراد كثيرين في مكان واحد ، بل يجوز أن تحصل عن بعد من الحوادث التي تتحد لأجلها وجهة أفكار المتأثرين بها فتجعلهم بذلك كالجماعة لا سيما إذا كانت النفوس مهيأة من قبل بأحد العوامل البعيدة التي مر ذكرها . 
الرجل شبيه بالحيوان يميل بطبعه الى التقليد ، فالتقليد من حاجاته على شرط سهولته ، و القليل من الناس لا يقلد سواء كان ذلك في الأفكار أو الآراء أو الأدبيات أو اللباس ، لأن الذي تقاد به الجماعات هو المثال لا البرهان ، و لكل عصر أناس قليل عددهم يستحدثون البدء فيقلدهم أبناء عصرهم فيها ، و إنما يشترط أن لا يبتعد المبتدع كثيرا عن المألوف حتى لا يصعب التقليد فيضعف تأثير المبتدع ، و لذلك لم يكن للذين فاقوا عصرهم من كبار الرجال تأثير في قومهم ألا نادرا لبعد البون بينهما و من هنا قل تأثير الأوربي في الشرقي ، لأن الخلف شديد بين الرجلين .
يتشابه أهل كل عصر في أمة بتأثير الزمن و تبادل التقليد ، حتى الذين يخيل أنهم متفاوتون ، كالحكماء و العلماء و الأدباء ، فإنك ترى على أفكارهم و ما يكتبون صبغة عشيرة واحدة تدلك في الحال على أنهم أبناؤ عصر واحد ، و لا يلزم أن يطول الحديث مع رجل لمعرفة الدرس الذي يصبو إليه و العمل الذي اعتاده ، و البيئة التي يختلف إليها .
و يبلغ تأثير العدوى إلى حد أنه يتعدى توحيد الأفكار إلى توحيد كيفية التأثر بالحوادث ، فالعدوى هي التي تنفر من الشئ في وقت من الأوقات ثم ترغب فيه ثانية من كان أشد الناس بغضا له .
و العدوى هي الأصل في انتشار أفكار الجماعات و معتقداتها لا الحجج و البراهين ، ففي الخمارة تتولد أفكار الفعلة من طريق التوكيد و التكرار و العدوى ، و قليلا ما تولدت أفكار الجماعات في كل عصر من غير هذا الطريق . و قد أصاب (رنان) إذ شبه مؤسسي النصرانية الاوائل بالفعلة الاشتراكيين الذين ينشرون مبادئهم من خمارة الى أخرى . و قد قال فولتير قبل ذلك بالنسية للديانة المسيحية : إنها استمرت لا يدين بها أحد إلا أخس الناس مدة مئة عام . و يؤخذ من الامثلة المتقدمة أن العدوى في مثل تلك الأحوال تبتدئ في الطبقات النازلة ثم تصعد منها الى الطبقات الرفيعة . 
هذا هو السبب في أن الفكر اذا انتشر بين طبقات العامة لا بد له من الانتشار أيضا بين طبقات الامة الى ارفعا و إن كان فاسدا بعيدا عن الصواب . و هذه من أغرب المشاهدات الاجتماعية ، لأن الافكار العامة لا تأتيهم دائما إلا من أفكار عالية تختلف عنها أثرها في البيئة التي ولدت فيها ، فيتناولها قائدو الجماعة بعد أن تتمكن منهم و يشوهونها ثم يؤلفون فئة تزيد في تغييرها ، ثم يبثونها في الجماعات ، و هذه تضاعف التغيير ، ثم تصير حقيقة عند العامة ، و بعد ذلك تصعد الى منبعها فتتمكن من نفوس الطبقة العالية ، و على هذا يكون العقل هو الذي يحكم الدنيا و لكن من بعد باعد ، فقد تفنى عظماء الحكماء الذين يوجدون الأفكار و تصير ترابا و يمر عليها كذلك الزمن الطويل قبل أن تسود الأفكار التي أوجدوها . 

Wednesday 20 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 22

سنتحدث عن وسائل القادة في التأثير ، و سنبدأ في التوكيد و التكرار و العدوى . إذا مست الحاجة الى قيادة جماعة و حملها على عمل من الاعمال كإحراق قصر أو الاستماتة في الدفاع عن حصن أو معقل ، وجب التأثير فيها بخواطر سريعة . و الأمثولة أشد تأثيرا في نفوسها إلا أنه يجب أن تكون هنالك أحوال جعلتها مستعدة للتأثر ، و أن يكون من يريد تحريكها حائزا للنفوذ ، و سيأتي الكلام فيه 
لكن إذا كان الغرض بث أفكار في عقولها أو معتقدات في نفوسها كالأفكار الأشتراكية العصرية ، فالوسائل غير ما تقدم و أخص ما يستعمله القادة ثلاث : التوكيد و التكرار و العدوى ، و لذلك تأثير بطئ ، إلا أنه متى انبث فيها المطلوب لزمها زمنا طويلا . 
فأما التوكيد فإنه من أهم العوامل لبث الفكر في نفوس الجماعات متى كان بسيطا خاليا من التعقل و الدليل ، و كلما كان التوكيد موجزا و مجردا عن كل ما له مسحة الحجة و التقرير كان عظيم التأثير ، فالتوكيد قيمته يعرفها أهل السياسة الذين يريدون الدفاع عن عمل سياسي ، و أهل الصناعات الذين يروجون بضاعتهم بالنشر عنها . 
إلا أن قيمة التوكيد هي بدوام تكراره بالألفاظ عينها ما أمكن ذلك . و أظن أن نابليون هو القائل بأن أهم صيغ البيان التكرار ، فإذا تكرر الشئ رسخ في الأذهان رسوخا تنتهي بقبوله حقيقة ناصعة . 
للتكرار تأثير في عقول المستنرين و تأثيره أكبر في عقول الجماعات من باب أولى . و السبب في ذلك كون المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان ، فإذا انقضى شطر من الزمن نسي الواحد منا صاحب التكرار و انتهى بتصديق المكرر . و هذا هو السر في تأثير الإعلانات العجيب . يقرأ الواحد مئة مرة أن أحسن الحلوى ما صنعه المصنع الفلاني فينتهي به الى أن يصدق ذلك .

و متى كثر تكرار أمر و أجمع المكررون عليه تولد من عملهم تيار فكري يتلوه ذلك المؤثر العظيم ، أي العدوى ، كما وقع ذلك في بعض المشروعات المالية الشهيرة التي تمكن أصحابها بثروتهم من كسب كل قادر على معونتهم ، لأن الافكار و المشاعر و التأثيرات و المعتقدات عدوى في الجماعات تماثل في قوتها عدوى المكروبات ، و ذلك أمر طبيعي لوجوده في الحيوانات متى اجتمعت ، فالفرس يقبع في مربطه فتفعل فعله الخيل كلها ، و تجزع الشاة أو تضطرب في حركتها فتفعل الغنم مثلها ، كذلك حركات الانسان في الجماعة عدوى سريعة جدا ، و هذا هو السبب في سرعة انزعاج الكل لفزع واحد منهم ، حتى إن اختلال القوى العقلية معد و كثير ما هم أطباء المجانين الذين جنوا ، و شاهد بعضهم نوعا من الجنون تنتقل عدواه من الانسان الى الحيوان .  

Tuesday 19 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 21

سنكمل في تأثير القادة في الجماعات . كان عمل قادة الجموع على الدوام خلق الاعتقاد بالنفوس لا فرق بين أن يكون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا ، و لا أن يكون محله عملا أو إنسانا أو رأيا . بهذا كان تأثيرهم عظيما جدا ، لأن قوة الايمان أكبر قوة في تصرف الانسان ، و قد صدق الانجيل في قوله أنه يزحزح الجبال عن مواضعها ، فمن كان مؤمنا زادت قوته عشر أمثالها ، و الذين قاموا بأكبر حوادث التاريخ أفراد من الضعفاء المؤمنين الذين لم يكن لهم من الحول الا الايمان ، و ليس المستبدون و لا الفلاسفة و لا أهل البأس على الاخص هم الذين أقاموا الأديان الكبرى التي سادت الدنيا ، و اختطوا الممالك الشاسعة التي امتدت فوق السطحين ( يقصد اليابسة و الماء ) .

لا يلبث الانسان أن يقع تحت حكم قائد يتبعه كلما خرج عن العزلة الى الجماعة ، ذلك أمر واقع في جميع الطبقات أرقاها و ادناها ، فأما افراد الطبقة العامة فإن الواحد منهم متى خرج عن حرفته أو مهنته لا تجد عنده تفكيرا واضحا في أمر من الامور .

من لوازم السلطة أن تكون مستبدة ، على أن استبدادهم هو علة سيادتهم . و قد بلغ ظمأ الجماعات أنها تخضع بفطرتها لكل من ادعى السيادة عليها . تنقسم القادة الى فريقين ممتازين ، فقادة أولو عزم و إرادة قوية و لكنها وقتية ، و قادة ذوو إرادة جمعت بين القوة و الدوام و هؤلاء قليلون ، و الفريق الأول أصحاب حدة و نزق و شجاعة و إقدام ، و هم على الأخص نافعون في تنفيذ ما دبر أو كسب الجموع بلا خوف من الخطر ، و جعل الجبان بطلا مغوارا  .

عزيمة أولئك القادة على قوتها قلما تبقى بعد زوال السبب الذي دعا إليها ، و كثيرا ما يبرهن الذين تجملوا بها على ضعف مدهش متى عادوا الى حياتهم الاعتيادية ، فتراهم لا يستطيعون التصرف في أصغر الحوادث مع كونهم ماهرين في تصريف غيرهم ، أولئك قادة لا يمكنهم القيام بوظائفهم إلا إذا كانوا أنفسهم مقودين ، و كان لهم مهيج على الدوام ، و استولت عليهم يد أو فكر من الأفكار و ساروا في طريق مرسوم من قبل . أما الفريق الثاني من القادة و هم ذوو الإرادة الثابتة ، فإن تأثيرهم أعظم بكثير و إن كانوا أقل ظهورا في الشكل ، و هم الذين نبغ من بينهم أصحاب الأعمال الكبيرة كالقديس بولس و محمد و كريستوفر كولومبوس و دولسبس و سواء كان قواد هذا الفريق من الاذكياء أو لا لهم الدنيا أبد الآبدين ، لأن الإرادة الثابتة التي اتصفوا بها ملكة نادرة الوجود لكنها قوية يخضع لها كل شئ . 

إن الكتاب الذي يضم سيرة أولئك القادة العظماء لا يكون فيه عدد كثير من الاسماء ، لكن تلك الاسماء هي التي كانت على هامة أكبر حوادث الحضارة و التاريخ . 

 

Monday 18 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 20

سنتحدث عن قادة الجماعات و طرقهم في الاقناع . ما اجتمع عدد من الاحياء سواء كان من الحيوان أو من بني الانسان الا جعل له بمقتضى الفطرة رئيسا . و الرئيس في الجماعات البشرية عبارة عن قائد في الغالب الا أن له بذلك شأنا كبيرا تجتمع الافكار و تتحد حول ارادته ، و هو الركن الأول الذي يقوم به نظام وحدة الجماعات و يهيئها لأن تصير طائفة خاصة . 
و العادة أن القائد يكون قبل ذلك مقودا : أعني أنه كان مسحورا بالفكرة التي صار هو الداعي إليها حتى استولت عليه استيلاء لا يرى معه الا ما كان منها ، و ان كل ما يخالفها باطل ، كما جرى للزعيم ( روبسبير ) أسكرته أفكار ( روسو ) فقام يدعو اليها ، و استعمل الاضطهاد وسيلة لنشرها . 
ليس القادة غالبا من اهل الرأي و الصحافة ، بل هم من أهل العمل و الإقدام ، و هم قليلوا التبصر . على أن ليس في قدرتهم التبصر ، لأن التأمل يؤدي غالبا الى الشك ثم الى السكون ، و هم يخرجون عادة من بين ذوي الاعصاب المريضة المتهوسين الذين اضطربت قواهم العقلية الى النصف ، و أمسوا على شفا جرف الجنون ، لا ينفع الدليل على فساد ما اعتقدوا كيفما كان معتقدهم باطلا ، و لا تثنيهم حجة عن طلب ما قصدوا بالغا منه الخطل ما بلغ ، و لا يؤثر فيهم الاحتقار و الاضطهاد ، بل يزيدهم تهوسا و عنادا ، حتى أنهم يفقدون غريزة المحافظة على النفس فلا يبتغون في الغالب أجرا على عملهم إلا أن يكونوا من ضحاياه . تزيد شدة اعتقادهم في قوة تأثير أقوالهم ، و الجموع تصغي دائما الى قول ذي الارادة القوية الذي يعرف كيف يتسلط عليها . و متى ما صار الناس جماعة فقدوا ارادتهم و التفوا كلهم حول من كان له شئ منها . 

وجد القادة في الأمم على الدوام غير أنهم ليسوا جميعا من أهل الاعتقاد الصادق الذي يصير به المرء رسولا في قومه ، بل في الغالب قوالون سوفسطائيون الا وراء منافعهم الذاتية فيتملقون ذوي المشاعر السافلة ليكتسبوا رضاهم و قد يكون النفوذ الذي ينالونه بهذه الوسائل كبيرا جدا إلا أنه سريع الزوال . أما أصحاب المعتقدات الصحيحة الذين تمكنوا من نفوس الجماعات و حركوها مثل ( بطرس الراهب ) و (لوثر) و ( سافونارول ) و رجال الثورة الفرنسية و غيرهم ، فإنهم لم يتمكنوا من خلب العقول و اجتذاب الأرواح إلا بعد أن سكروا بخمر المذهب الذي اعتقدوه . و بذلك توصلوا الى توليد تلك القوة الهائلة في النفوس ، و هي التصديق الذي يجعل المرء عبدا لخياله . 

Sunday 17 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 19

سنتحدث عن تأثير العقل في الجماعات . في الحقيقة ليس للعقل من تأثير على الجماعات ، و لهذا فإن الخطباء الذين عرفوا كيف تتأثر الجماعات إنما يخاطبون شعورها دون العقل ، لأنه لا سلطان لقواعد المنطق عليها فلأجل إقناع الجماعة ينبغي الوقوف أولا على المشاعر القائمة بها و التظاهر بموافقتها فيها ، ثم يحاول الخطيب تعديلها باستعمال مقارنات بسيطة عادية أمامها صور مؤثرة ، و ينبغي أن يكون مقتدرا على الرجوع القهقري متى وجد المقتضى ، و أن يتفرس في كل لحظة أثر كلامه في نفس سامعيه حتى يغير منه كلما مست الحاجة ، و هذه الضرورة التي تلجئ الخطيب الى سرعة تغيير الكلام بحسب الأثر الحاصل في نفس السامع ، هي التي تدلنا على ضعف الخطابة بالكلام المحضر من قبل ، لأن الخطيب يتبع في هذه الحالة سلسلة أفكاره لا حركة فكر سامعيه ، فلا يكون لكلامه أقل تأثير عندهم .

أما المناطقة فلأنهم تعودوا الاقتناع بالادلة المتسلسلة الدامغة لا يمكنهم الخروج عن عادتهم هذه في مخاطبة الجماعات ، لذلك يدهشهم على الدوام عدم تأثير استدلالهم ، قال بعض هؤلاء المنطقيين : إن للقياس المنطقي ، أعني الجمع بين الشئ و نظيره ، في الاستدلال نتيجة لازمة لا تتخلف عنه ، و هذا اللزوم يقتضي التسليم حتى من المادة لو أن فيها قدرة على أن تتمثل النظائر . و هو مسلم غير أنه لا فرق بين الجماعة و المادة في عدم إدراك النظائر ، بل في عدم القدرة على سماعها ، و من لم يصدق فليجرب أقناع الهمجي أو المتوحش أو الصبي بالحجة العقلية و الدليل المنطقي ، و هو يقتنع بضعف تأثير هذه الطريقة بإقناعهم . 

رب سائل يوجب الأسف أن العقل ليس هو الذي يهدي الجموع على الدوام ، نحن لا يسعنا القول به على الدوام ، بل نرى أنه لو كان الهدى للعقل لما اندفعت الانسانية في سبل المدنيات و الحضارة بالهمة التي أوجدتها الخيالات و الأوهام ، فليس لنا غنى عن الاوهام لانها نبات العرائز . 

كل شعب يحمل في كيانه العقلي نواميس مآله في الوجود ، و الظاهر أنه يسير محكوما بتلك النواميس ، و أنه ينقاد لحكمها بفعل فطرة لا مقدور له فيها حتى في نزعاته التي يرى أنها خارجة عن كل معقول ، و كذلك يظهر أحيانا أن الامم مدفوعة بقوى خفية مثل التي تجعل بذرة البلوط شجرة كأمها .

على أنه لا يسعنا أن نعرف الا قليلا من تلك القوى ، و ذلك بالبحث عنها في حركة تطور الامة العمومية لا في الحوادث الفردية التي يخال أنها سبب ذلك التطور ، إذ لو قصرنا النظر على هذه الحوادث لظهر أن التاريخ يتكون من مصادفات غير معقولة بالمرة ، فمما لا يصدقه العقل أن قبائل عربية تعيش في الصحراء تندلع من صحاريها و تبسط فتوحاتها على القسم الاكبر من الدنيا القديمة لتي عرفها اليونان و الرومان و تختط مملكة فاقت ضخامتها مملكة الاسكندر . و كذلك مما لا يتصوره العقل أن يقوم ضابط صغير في فرنسا (يقصد نابليون بونابرت) باحتلال معظم اوروبا و إخضاعها . 

إذن لندع العقل للحكماء و لا نطلبن منه أن يتدخل كثيرا في حكم الامم ، فما بالعقل ، بل على الرغم منه في غالب الاحيان تولدت مشاعر مثل الشرف و إنكار الذات و الايمان بالدين و حب المجد و الوطن ، و هي الصفات التي كانت و لا تزال أقوى دعائم المدنيات كلها . 

Saturday 16 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 18

نكمل في العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حديثنا سوف يكون عن التجارب . التجارب هي على التقريب الوسيلة الفعالة لتقرير الحقيقة في نفوس الجماعات ، و إزالة الأوهام التي عظم ضررها ، إنما ينبغي أن تكون عامة ما أمكن و أن تتكرر ، إذ تجارب جيل لا تؤثر غالبا في الجيل الذي يليه ، و لذلك لا تصلح الحوادث التاريخية للدليل ، بل تصلح لبيان أنه يجب تكرار التجارب من جيل الى جيل ليكوّن بعض الأثر و ليتوصل بها الى زعزعة الوهم المتأصل في نفوس الجماعة . 

و من المحقق أن مؤرخي العصور الآتية سيكثرون من ذكر حوادث هذا القرن ، و الذي تقدمه إحتوائها على تجارب لا مثيل لها ، لأن الناس لم يباشروا نظائرها في زمن من الأزمان . 

و أكبر الأحداث هي الثورة الفرنسية ، لانها تدل على أن الفرنسيين احتاجوا الى قتل عشرة ملايين من الرجال و إضرام نار الفتن و القلاقل في أوربا كلها مدة عشرين عاما ، لنعرف أن الأمة لا تخلق خلقا جديدا بإرشاد العقل وحده . حيث قام الفرنسيون بتجربتين منهكتين في خمسين عاما ليثبتوا من طريق التجربة أن القياصرة تكلف الامم التي تمجدها كلفة باهظة ، و مع أنها كانتا مشرقتين بالحجة على ما أرادوا يظهر أنهما لم تعتبرا كافيتين للأقناع ، و الأولى اقتضت بضعة ملايين من النفوس و غارة اجنبية على البلاد ، و الثانية أدت الى سلخ اقليم عنها و ضرورة إيجاد جيش مستديم مع ذلك ، و كانت الثالثة على الأبواب و هي واقعة لا محالة يوما من الايام ( يقصد بها الحرب العالمية الأولى و قد حدثت فعلا ) .

و بالجملة كان لا بد من تلك الحروب الهائلة التي استنزفت ثروة الامة الفرنسية لكي تقلع الامة كلها عن الوهم بأن الجيش الالماني العرمرم لم يكن الا عبارة عن حرس ملى لا خوف منه كما كانوا يوحون به عندنا منذ ثلاثين عاما . 

و لو أردنا أن نبرهن للأمم التي تعمل بمذهب حماية التجارة الوطنية لتقييد التجارة الاجنبية ، للزمنا القيام بتجارب ضارة بثروتنا مدة عشرين عاما ، و من السهل الاكثار من الامثلة على ما تقدم . 



ملاحظة : غوستاف لوبون عالم نفس اجتماعي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين و هو هنا يسرد الاحداث التي حصلت في فرنسا في تلك الفترة و ما قبلها و يحاول ان يستدل من خلالها على أفكاره .

Wednesday 13 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 17

نكمل في هذه المقالة ما ابتدأناه في بحثنا عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات ، و سنتحدث عن الاوهام . خضعت الجماعات منذ بزغ فجر المدنية لتأثير الاوهام ، فأقامت لموجديها أكبر التماثيل و الهياكل و المعابد ، و ما من حضارة تبلج صبحها على الارض الا و كانت تلك الملوك الهائلة في طليعة جيوشها . المعتقدات الدينية قديما و السياسية و الاجتماعية في هذه الايام هي التي شيدت هياكل الكلدان و مصر ، و أقامت المساجد و الكنائس في القرون الوسطى ، و هي التي قلبت القارة الاوربية من الرأس الى القدم في العصر الحديث و خاتمها مطبوع في جبين كل ما أبرزه العقل من المستحدثات الفنية أو السياسية أو الاجتماعية . يهدمها الانسان احيانا ، و لكنه يعاني جراء ذلك هول الانقلاب ، ثم هو محكوم عليه دائما أن يقيمها من جديد ، فلولا هي ما خرج الانسان من بربريته الاولى ، و لولاها لراح مسرعا يتخبط في اودية الخشونة و التوحش . نعم هي خيالات باطلة ، و هي بنات الاحلام ، و لكنها هي التي ساقت الامم الى ايجاد ما في الفنون من رفيع و جميل و ما في الحضارة من عظيم و جليل . 
قال ( دانيال روزيار ) :  لو أبيد ما في دور العبادات ، أو ما في المكتبات العمومية و كسرت فوق بلاط مماشيها جميع التحف و الآثار الفخمة التي ابدعتها الفنون و الاديان ، ما بقي شئ مما ولدته الاحلام ، و ما كانت الآلهة و الابطال و لا الشعراء إلا لتحدث في النفوس شيئا من الرجال و بعضا من الخيال ، إذ لا حياة للناس بغير الأمل و الرجاء . حمل العلم هذه الأمانة الثقيلة لفترة من الزمن ثم تغلبت عليه قوة الخيال ، لأنه أصبح غير قادر على الوعد بأدائها كلها عاجزا عن الكذب الى النهاية . 
اشتد ولع الفلاسفة في القرون الماضية بهدم الاوهام الدينية و السياسية و الاجتماعية التي عاش بها آباؤنا قرونا و أجيالا ، فلما ظهروا عليها كانوا قد سدوا أيضا منابع الرجاء و أغلقوا باب احتمال القضاء ، و برزت من خلف الخيال الذي خنقوه قوى الطبيعة العمياء الصماء التي لا تشفق على الضعفاء و لا تحنو على التعساء . 
سارت الفلسفة الى الامام شوطا بعيدا ، و لكنها مع تقدمها لم تهيئ للجماعات خيالا يلذها ، و الجماعات لا غنى لها عن الاوهام ، لذلك اندفعت وراء غريزتها و ذهبت الى تجار البلاغة الذين يبيعونها تجارة حاضرة مثلها كمثل الحشرة تدب حيثما يكون الضياء . إن الحقيقة لم تكن ابدا العامل الاكبر في تطور الامم ، و لكنه الباطل على الدوام . و إذا بحثت عن السبب في قوة مذهب الاشتراكية الذي أسسه العالم الاقتصادي الالماني كارل ماركس في القرن التاسع عشر و انتشر في القرن العشرين وجدته ما اشتمل عليه من الخيال الذي لا يزال حيا في العقول ، فهو يعظم و يتجسم مع تزاحم أنوار العلم التي تبرهن على فساده ، ذلك لأن قوته آتية من جهل دعاته بحقائق الأشياء جهلا كافيا يجرئهم على وعد الناس بالسعادة في الحياة ، فما كانت الجماعات في ظمأ الى الحقيقة طول حياتها ، و اذا تبدت أمامها و كانت تغضبها أعرضت و نأت و راحت تعبد الأوهام التي ترضى الامرة عليها لمن أضلها ، و الويل منها لمن هداها .

Friday 8 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 16

بدأنا في المقالة السابقة البحث عن العوامل القريبة المؤثرة في الجماعات . حيث بدأنا بأول عامل و هو الصور و الالفاظ . و سوف نكمل في هذا العامل . من تأمل في لغة من اللغات وجد أن الالفاظ التي تتركب منها لا تتغير مع الزمان إلا ببطئ عظيم ، إنما الذي يتغير على الدوام هو الصور التي تلازم تلك الالفاظ و المعاني التي تؤديها ، و من هنا ترجمة لغة بتامامها الى لغة اخرى ضرب من المستحيل ، خصوصا اذا كانت لغة أمة ميتة . و نحن اذا ترجمنا كلمة من اليونانية القديمة أو اللاتينية أو السنسيكريتية الى اللغة الانكليزية مثلا ، فهذا ليس إلا إحلال الصور و المعاني المنتزعة من حياتنا الحاضرة محل صور و معارف مغايرة لها بالمرة ، و كانت معروفة لأمم لا نسبة بين حياتنا و حياتهم . فمثلا كلمة الحرية لا يوجد هنالك شبه بين المعنى المراد منها في اليونان القديمة و المعنى المراد منها في وقتنا الحاضر . و كان معنى كلمة الوطن مختلف كذلك ، فلقد كانت كلمة الوطن تشير الى المدينة ، سواء كانت تلك المدينة أثينا او سبارطا ، و لم تكن تشير الى البلاد اليونانية مجتمعة . فلقد كانت هذه المدن اليونانية متباغضة متقاتلة على الدوام . و ما اكثر الالفاظ التي تغير معناها تغيرا كليا من جيل الى جيل ، و لم نعد ندرك معانيها الاولى الا مع الجهد و المشقة ، و لقد أصاب القائل بوجوب الاطلاع على كتب كثيرة للوقوف على ما كان يفهمه أجدادنا من بعض الالفاظ مثل ملك و عائلة ملكية ، فما بالك بغيرها مما له معنى دقيق . نتج من هذا أن معاني الالفاظ غير ثابتة ، و أنها عرضية وقتية تتغير بتغير الأجيال و تختلف باختلاف الامم ، فإذا أردنا أن نؤثر في الجماعات لزمنا أن نعرف معنى الالفاظ عندها وقت مخاطبتها لا معناها القديم ، و لا الذي يفهمه منها من يختلف معها في الفكر و المعقول . و من أجل هذا متى تمت الانقلابات السياسية و استقرت معتقدات مكان اخرى و تمكن بذلك نفور الجماعات من الصور التي تحضرها الالفاظ ، وجب على رجال السياسة الجديرين بهذا الاسم أن يسارعوا الى تغيير تلك الالفاظ من دون ان يتعرضوا للمسميات ، لأن هذه مرتبطة بمزاج القوم الموروث ارتباطا ليس من السهل تغييره . 

Thursday 7 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 15

فرغنا من البحث في العوامل البعيدة التحضيرية التي تهيئ نفوس الجماعات لظهور بعض الاميال و الافكار . بقي علينا ان نبحث في العوامل القريبة ، اي التي تؤثر فيها مباشرة . سنبحث في هذه المقالة أول عامل من العوامل القريبة و هو عامل الصور و الالفاظ و الجمل . أن الجماعات تتأثر على الاخص بالصور . و ليست الصور ممكنة في كل وقت ، لكن من السهل استحضارها في الذهن بالحذق في استعمال الالفاظ و الجمل ، و متى كان المستعمل لهما بارعا فلها قوة السحر على الجماعات ، فهي التي تثير في نفس الجماعات أشد صواعق الغضب ، و هي التي تسكنها اذا جاشت ، و لو جمعت عظام الذين ذهبوا ضحية الالفاظ و الجمل لأمكن أن يقام منها هرم أرفع من هرم خيوبس القديم. السر في تأثير الالفاظ للصور التي تحضر في الذهن بواسطتها ، و ليس لذلك التأثير ارتباط بمعانيها الحقيقية ، بل الغالب أن أشدها تأثيرا ما كان معناه غير واضح تماما . مثال ذلك كلمات : ديمقراطية ، اشتراكية ، مساواة ، حرية ... و هكذا مما أبهم معناه . و الكل يسلم أن لها سلطانا ينساب في النفوس كأنها اشتملت على حل المسائل الاجتماعية كلها ، و فيها تتمثل الاميال اللاشعورية على اختلافها و الامل في تحقيقها . لبعض الالفاظ و الجمل سلطان لا يضعفه العقل و لا يؤثر فيه الدليل ، الفاظ و جمل ينطقها المتكلم خاشعا أمام الجماعات فلا تكاد تخرج من فمه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين و تعنو الوجوه لها احتراما ، و كثير يعتقدون ان فيها قوة الهية . الفاظ و جمل تثير في النفوس صورا لا كيف لها و لا انحصار ، محفوفة بالإكبار و الإعظام ، ابهامها و غموضها يزيد في قوتها الخفية ، فهي آلهة لا تدركها الابصار قد احتجبت خلف المظلة التي ترتعد لهيبتها فرائص العابد إذا تقدم نحوها . و لما كانت الصور التي تستحضرها الالفاظ مستقلة عن معانيها كانت مختلفة باختلاف الاجيال و الامم و ان اتحدت صيغتها ، و لبعض الالفاظ صور تتلوها على الأثر كأن الكلمة منبه اذا تحرك برزت صورته . و من الالفاظ ما هو مجرد عن قوة استحضار صورة ما ، و منها ما تكون له تلك القوة أولا ، ثم تبلى بالاستعمال فتفقدها تماما و تصير اصواتا فارغة تنحصر فائدتها في إعفاء المتكلم بها من التفكر و الامعان . و من السهل على الانسان إذا حفظ في صغره قليلا من الالفاظ و شيئا من الجمل المصطلح عليها أن يجتاز الحياة بها من دون الحاجة الى اجهاد النفس بالفكر في امر من امور الدنيا . 

Friday 1 May 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 14

نكمل في العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها . و سنتناول في هذه المقالة التربية و التعليم . لكل عصر أفكار تسود فيه و إن كانت في الغالب من قبيل الخيالات . و من الافكار السائدة في هذا العصر أن للتعليم قدرة على تغيير الرجال تغييرا محسوسا ، و أن نتيجته التي لا يشكون فيها هي اصلاحهم ، بل ايجاد المساواة بينهم . ذكروا ذلك و كرروه فصار احد الافكار الثابتة ، و أصبح التعرض له من أصعب الامور ، كما كان يصعب التعرض لسلطان الكنيسة في السابق . نعم مما لا يشك فيه ان التعليم إذا حسنت طرائقه ينتج نتائج عملية ذات فائدة كبيرة ، فإذا هو لم يرفع درجة التهذيب و يؤثر في رقي الاخلاق ، فإنه ينمي الكفاءات الفنية . و لكن لسوء الحظ فإن التربية اذا ساءت طرائقها فيكون ضررها أكبر من نفعها . و أول هذه الطرائق الخاطئة في التعليم ما يحكم علم النفس عليها بالفساد . ذلك أنهم قالوا إن الحفظ عن ظهر قلب يزيد الذكاء و يقوي الفطنة ، ثم انتقلوا من هذا الى وجوب الاكثار من الحفظ ما استطاعوا ، و صار المتعلم في المدرسة الابتدائية و الثانوية و العالية حتى الذي يتلقى علوم الاستاذية لا يعمل إلا للحفظ ، و هو في ذلك كله لا يدرب مداركه و لا يمرن ملكة الاقدام على العمل من نفسه ، لان التعليم في نظره ينحصر في القاء المحفوظ و في الخضوع . و لكن لو كان ضرر هذه التربية قاصرا على عدم فائدتها لاكتفينا بالعطف على اولئك الاطفال المساكين الذين يحفظون تلك الكتب المدرسية المملة ، بدلا من أن يتعلموا أشياء اخرى نافعة ، لكن ضررها اكبر من ذلك ، فهي تولد في نفس المتعلم سآمة شديدة من حالته التي هو عليها بمقتضى نشأته ، و رغبة شديدة في الانسلاخ عنها ، فلا الصانع يبغي البقاء على صنعته و لا الفلاح يميل الى الدوام في فلاحته . و أقل الناس في الطبقة الوسطى لا يختار لابنائه عملا إلا في وظائف الحكومة . و المدرسة لا تربي رجالا قادرين على الحياة ، و انما تخرج عمالا لوظائف ينجح فيها الانسان دون أن يهتم بقيادة نفسه و لا أن يتقدم الى عمل من ذاته . ان الاكتساب السطحي لتلك المعارف الكثيرة و أجادة حفظ و استظهار تلك الكتب المدرسية المملة لا يرقي فينا ملكة العقل . أما التعليم الفني العملي هو الذي يربي فينا ملكة العقل و الملاحظة .

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 13

تناولنا في آخر المقالات العوامل البعيدة المؤثرة في آراء الجماعات و معتقداتها ، حيث تناولنا في المقالة السابقة عامل الزمان و سنكمل في بقية العوامل . في هذه المقالة سنتناول عامل الانظمة السياسية و الاجتماعية . لا يزال الناس يذهبون الى ان الانظمة تقوم و تعدل ما اعوج من الهيئة الاجتماعية ، و ان تقدم الامم أثر من آثار اتقان تلك الانظمة و اصلاح الحكومات ، و انه يمكن احداث الانقلابات الاجتماعية بواسطة الاوامر و القوانين . ذاك وهم تأصل في الافكار لما تبدده التجارب على تكرارها ، و قد ضاعت جهود الفلاسفة و المؤرخين سدى في بيان فساده و بطلانه . ان الانظمة هي بنات الافكار و المشاعر و الاخلاق ، و ان الافكار و المشاعر و الاخلاق لا تتغير بتغيير القوانين ، و ان الامم لا تختار نظامها كما تشتهي ، كما انها لا تملك اختيار لون اعينها و شعر رؤوسها ، بل ان الانظمة و الحكومات هي ثمرة الشعب التي هي فيه ، فليست هي التي تخلق زمانها ، و لكنها هي التي أوجدها زمانها . و كما ان كل نظام لم يستقر الا بعد قرون عدة كذلك ينبغي لتغييره قرون عدة . و ليست للانظمة قيمة نوعية في ذاتها ، فهي لا تكون حسنة لذاتها و لا هي رديئة لذاتها . و ان ما صلح منها لامة في زمان من الممكن ان يكون مضرا في امة اخرى . لذلك كان من المحقق ان الامة لا تستطيع ان تغير انظمتها كما تشاء ، نعم بإمكانها ان تبدل أسماءها بواسطة الثورات العنيفة و الاضطرابات القوية ، لكن اللب يبقى كما كان . أما الاسماء فهي عناوين لا يلتفت اليها المؤرخ الذي ينقب عن حقائق الاشياء . لذلك كان من العبث جدا اضاعة الزمن في خلق نظام جديد من جديد ، فلا فائدة من ذلك ، فالحاجة و الزمان هما الكفيلان بإعداده اذا عقل الناس و تركوا هذين العاملين يعملان . فالقوانين في كل أمة منتزعة من روحها ، و أنه لا يمكن لذلك تغييرها عنوة و قسرا . يجوز الجدل فلسفيا في هل حصر السلطة و ارجاعها في النهاية الى يد واحدة أفضل من تفريقها ، أم العكس أولى . لكن إذا رأينا امة مؤلفة من عناصر مختلفة قضت الف عام فوصلت بعد ذلك الى حصر السلطة و جمعها ، و رأينا من جهة أخرى أن ثورة عظيمة جائت لتحطم كل نظام ولده الزمان قد احترمت هذا الحصر و بالغت فيه ، كان لنا ان نقول : ان هذا النظام هو ابن الضرورة التي لا مفر منها ، و انه شرط من شروط حياة تلك الامة ، و أن نرثي لحال اولئك السياسيين الذين يذهبون الى وجوب ابطال ذلك النظام . و لو أن الصدفة ساعدتهم على نيل ما يبتغون لكانت نتيجة ذلك قيام حرب أهلية يستطير شررها و العودة عاجلا ام آجلا الى حصر السلطة بأشد مما هي عليه . نتج من ذلك أن التأثير الحقيقي في روح الجماعات لا يكون عن طريق الانظمة . و أن الذي يحكم الامم انما هو اخلاقها . و كل نظام لا يندمج مع تلك الاخلاق و يمتزج بها تمام الامتزاج يكون أشبه بالثوب المستعار و هو ستار لا يدوم .