Thursday 30 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 12

نكمل في سلسلة المقالات التي تتكلم عن العوامل البعيدة المؤثرة في اراء الجماعات و معتقداتها . حيث تكلمنا في المقالة السابقة عن التقاليد و سنتكلم في هذه المقالة عن الزمان . من اهم العوامل التي يبحث فيها في علم الاجتماع هو الزمان ، فهو الموجد الحقيقي الوحيد و هو الهادم القوي الوحيد . هو الذي كون الجبال من حبيبات الرمال و رفع الخلية الحقيرة التي اشتملت على اصل الوجود النوعي الى مقام الانسان ، و كل ظاهرة و كل حادثة لا تتغير و لا تتحول الا بالزمان . و لقد اصاب من قال أن النملة اذا امتد امامها الزمن فبوسعها أن تجعل الجبل الرفيع مهادا ، و لو أن موجودا تمكن من تصريف الزمان كما يشاء لكان صاحب القوة التي يعترف بها المؤمنون للواحد الديان . بحثنا هنا قاصر على تأثير الزمان في آراء الجماعات و معتقداتها ، و هو فيها له كذلك الاثر العظيم ، فهو القاهر فوق اكبر المؤثرات الاخرى من التي لا تكون بدونه كالشعب و غيره و هو الذي يولد المعتقدات فينميها ثم يميتها ، و منه تستمد قوتها و بفعله يتولاها الضعف و الانحلال . و الزمان هو بالاخص محضر آراء الجماعات أو قل هو مهيئ التربة التي نبتت فيها . و لذلك صح وجود بعض الافكار في زمن و امتنع وجودها في زمن آخر . فالزمان هو الذي يهيئ قيام الاراء و المذاهب في العصور المتتابعة ، لانها لا تنبت صدفة و لا توجد اتفاقا ، بل إن لكل واحد منها جذورا تمتد في زمن بعيد ، فإذا انبثقت فإنما الزمان هو الذي هيأ تفتح ازهارها ، و اذا أردت أن تعرف كنهها فارجع الى ماضيها . هي بنات الماضي و امهات المستقبل . نتج من هذا ان الزمان هو صاحب السيادة الحقيقية فينا ، و ما علينا الا ان نتركه يعمل لنرى كل شئ يتحول و يتبدل . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 11

بدأنا في الحديث في المقالة السابقة عن العوامل البعيدة التي تؤثر في آراء الجماعات و معتقداتها و شرحنا في تلك المقالة عامل الشعب و سوف نكمل  بقية العوامل ، و سوف نبدأ بالتقاليد . التقاليد عبار عن ماضي الامة في أفكارها و حاجاتها و مشاعرها ، فهي تشخص روح الشعب و لها في القوم تأثير عظيم . إن كثيرا من المفكرين و أقطاب السياسة لا يزالون على أفكار الماضي ، فيعتقدون أنه يتيسر للأمة أن تنخلع من ماضيها وتنشأ نفسها من جديد غير مستهدية في ذلك الا بنور العقل وحده ، و فاتهم أن الامة جسم منظم أوجده الماضي ، فهي كغيرها من الاجسام لا تستطيع الانتقال من طور الى طور إلا بتراكم آثار الوراثة فيها على مهل . و الذي يقود الناس و لا سيما اذا اجتمعوا إنما هي التقاليد و هم لا يسهل عليهم أن يغيروا منها سوى الاسماء و الاشكال . و ليس هذا مما يوجب الاسف ، إذ لولا التقاليد ما كان هنالك شئ يقال له روح قومية و لا حضارة ممكنة ، ألا ترى أن هم الناس مذ وجدوا أن يكون لهم تقاليد ، فإذا زال نفعها اجتهدوا في هدمها . و الحاصل أنه لا مدنية من دون تقاليد . ثم ان الرقي موقوف على هدمها . و الصعوبة في ايجاد التوازن بين التقلب و البقاء ، إلا أنها صعوبة كبرى ، فإذا تأصلت في الامة عادات و تمكنت منها أخلاق عدة أجيال تعذر عليها الانتقال ، و لا تؤثر فيها الثورات العنيفة ، لانها لا تأتي الا بإحدى نتيجتين : فإما الحلقات التي تقطعت من السلسلة تنضم و تلتحم ببعضها فيعود الماضي الى التربع في سيادته بدون تغيير ما . و اما ان تبقى تلك الحلقات منثورة فهي الفوضى و يتبعها التقهقر و الانحطاط . لذلك كان اكبر النعم التي يجب ان تصبو اليها الامة هي المحافظة على الانظمة التي ورثتها ، و أن تسير في الانتقال بها من طور الى اكمل منه على مهل و بلا اهتزاز . و أشد الناس محافظة على الافكار القديمة و التقليدية و اصعبهم مراسا في معارضة من يحاول تبديلها هي الجماعات .

Wednesday 29 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 10

سنتكلم في هذه المقالة عن كيفية تولد اراء الجماعة و معتقداتها و كيفية حلول هذه الاراء و استقرارها في النفوس . العوامل التي تولد اراء الجماعات على قسمين بعيدة و قريبة ، أما البعيدة فهي التي تهيئ الجماعات لقبول بعض المعتقدات دون بعض ، أعني أنها التربة التي تنبت فيها افكار جديدة ذات قوة و أثر مدهشين ، و ظهور تلك الافكار يكون فجأة ، فقد تشبه في انبثاقها و العمل بها انقضاض الصاعقة ، إلا انها نتيجة عمل سابق طويل ينبغي البحث عنه . و أما العوامل القريبة فهي التي تأتي بعد هذا العمل الطويل و لا اثر لها بدونه ، و وظيفتها تكوين الاعتقاد الداعي الى الفعل ، أعني أنها تقوم الفكر و تقذف به الى الخارج مع جميع ما يحتمل من النتائج ، فهي التي تدفع الجماعات فجأة للقيام بما تمكن من نفسها من الاعمال ، و هي علة القلاقل و الاعتصابات و التفاف الجم الغفير حول رجل يرتفع بذلك الى الاوج أو ضد حكومة تهبط الى الدرك الاسفل . تتعاقب العوامل بقسميها في جميع حوادث التاريخ العظيمة ، ففي الثورة الفرنسية و هي أكبر مثال لتلك الحوادث ، كانت العوامل البعيدة هي كتب الفلاسفة و تقدم العلم و هي التي هيئت روح الجماعات ، ثم جائت العوامل القريبة مثل خطب الخطباء و معارضة ملك فرنسا لويس السادس عشر لأجراء الاصلاحات و هي التي أثارت الجماعات بسهولة . و من العوامل البعيدة ما هو عام ، بمعنى أنه يؤثر في معتقدات كل جماعة و في آرائها و هي الشعب و التقاليد و الزمن و الانظمة و التربية . و سنبحث في شأن كل واحد من هذه العوامل ، و لكن في هذه المقالة سنقصر بحثنا على الشعب و نكمل البقية في المقالات القادمة . الشعب : بدأنا به لأن له المقام الاول بين العوامل ، فله وحده من الأثر ما يربو على آثارها جميعا . أن الشعب متى ما كملت مميزاته يصير بمقتضى الوراثة نفسها ذا قوة عظمى ، و تكون له روح ترجع اليها اعتقاداته و أنظمته و فنونه و جميع عناصر مدينته ، كذلك أن قوة الشعب تبلغ حدا يتعذر معه انتقال أحد هذه العناصر من امة الى اخرى من دون ان يتغير تغيرا عاما . فمثلا يستحيل أن تنتقل اللغة أو الدين أو الفنون أو أي عنصر من عناصر المدنية من امة الى اخرى الا اذا اصابها التغير و التحول . نعم إن البيئة و الاحوال و الحوادث تشخص مقتضيات الزمن الذي هي فيه ، و قد يكون لها تأثير كبير لكنه تأثير عرضي على الدوام اذا تضارب مع مقتضيات الشعب ، أعني مع سلسلة تلك المؤثرات الوراثية . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 9

تكلمنا في المقالة السابقة عن تعقل الجماعات و في هذه المقالة سنتكلم عن تخيل الجماعات.ان الجماعات ﻛﺎﻟﺬوات اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻌﻘﻞ ﰲ ﺣﺪة اﻟﺘﺨﻴﻞ وﻓﻌﻠﻪ اﻟﺪاﺋﻢ، وﰲ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻟﻠﺘﺄﺛﺮ اﻟﺸﺪﻳﺪ، ﻓﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﴬﻫﺎ ﻣﻦ إﻧﺴﺎن أو واﻗﻌﺔ ﺗﻜﺎد ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ، وﺣﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت أﺷﺒﻪ ﺑﺎلمنوم اﻟﺬي ﺗﻘﻒ ﻓﻴﻪ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻓﺘﺤﴬ ﰲ ذﻫﻨﻪ ﺻﻮر ﻣﺆﺛﺮة ﺟﺪٍّا، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺰول ﺑﻤﺠﺮد اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ. و لما ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت لا تعرف التعقل و لا التأمل فانها  لا تعرف أن شيئا ما غير معقول ،   و غير المعقول هو اشد تأثيرا ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻏﺎﻟﺒًﺎ . ﻟﻬﺬا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻬﺔ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ واﻟﻘﺼﺼﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺣﻮاس اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ أﻛﱪ ﻣﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ، وإذا دﻗﻘﻨﺎ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﺣﻀﺎرة ﻣﺎ وﺟﺪﻧﺎﻫﺎ إﻧﻤﺎ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﻐﺮﻳﺐ واﻟﻘﺼﺺ، ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻟﻠﻈﺎﻫﺮ ﻓﻴﻪ ﺷﺄن أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ واﻟﻮﻫﻤﻲ ﺳﺎﺋﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ . ﻻ ﺗﺘﻌﻘﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت إﻻ ﺑﺎﻟﺘﺨﻴﻞ وﻻ ﺗﺘﺄﺛﺮ إﻻ ﺑﻪ، ﻓﺎﻟﺼﻮر ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺰﻋﻬﺎ وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺬﺑﻬﺎ وﺗﻜﻮن ﺳﺒﺒًﺎ ﻷﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ، ﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن اﻟﺘﺸﺨﻴﺺ ﰲ الملاهي ﻣﻦ أﻛﱪ المؤثرات ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت داﺋﻤًﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﺜﻞ ﻟﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ أﺟﲆ ﺻﻮرﻫﺎ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴين  ﺗﺮى اﻟﺴﻌﺎدة ﻛﻞ اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ اﻟﻌﻴﺶ في الملاهي ، وﻗﺪ ﻣﺮت اﻟﻘﺮون وﺗﻌﺎﻗﺒﺖ اﻟﺪﻫﻮر وﻟﻢ ﻳﺘﻐير  ﻫﺬا . وﻻ ﻳﺰال اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ أﻛﱪ ﻣﺆﺛﺮ ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت. ،اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ ﻳﺘﺄﺛﺮون ﺑﻤﺆﺛﺮ واﺣﺪ وإن ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﻨﺘﻘﻠﻮن ﻋﲆ اﻟﻔﻮر ﻣﻦ اﻟﺸﻌﻮر إﱃ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﺬﻟﻚ ﻷن اﻟﻔﺮد ﻣﻨﻬﻢ وإن ﺑﻠﻎ ﻣﻨﻪ ﻋﺪم اﻻﻟﺘﻔﺎت ﻟﻠﻮاﻗﻊ ﻣﺎ ﺑﻠﻎ ﻻ ﻳﻨﴗ أﻧﻪ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺨﻴﺎل وأﻧﻪ إﻧﻤﺎ ﺿﺤﻚ أو ﺑﻜﻰ ﻣﺘﺄﺛﺮًا ﺑﺤﻮادث ﺗﺼﻮرﻳﺔ، ﻋﲆ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻘﻊ أن اﻟﺼﻮرة ﺗﻔﻌﻞ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻓﻌﻞ المؤثرات اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻓﺘﺪﻓﻌﻬﺎ إﱃ اﻟﻌﻤﻞ؛ إذ كثيرا ﻣﺎ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﻋﻦ ﻣﻠﻬﻰ ﻛﺎن ﻳﻜﺜﺮ ﻣﻦ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﺮواﻳﺎت المحزنة ﻓﻜﺎن اﻟﺤﺮس ﻳﺤﻴﻂ داﺋﻤًﺎ ﺑﻤﻤﺜﻞ اﻟﺨﺎﺋﻦ اﻷﺛﻴﻢ عند خروجه خوفا عليه من هياج المتفرجين الذين يريدون ان ينتقموا من لانه قام بارتكاب تلك الجرائم الوهمية .  وﻫﺬا ﻓﻴﻤﺎ أرى ﻣﻦ أﻛﱪ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ وﺑﺎﻷﺧﺺ ً ﻋﲆ ﺳﻬﻮﻟﺔ اﻟﺘﺄثير ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻠﻠﻮﻫﻤﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﻲ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ وﻫﻲ ﻣﻴﺎﻟﺔ ﻣﻴﻼ ﻇﺎﻫﺮًا إﱃ ﻋﺪم اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ . ﻳﻘﻮم ﺳﻠﻄﺎن اﻟﻔﺎﺗﺤين  وﺗﺒﻨﻲ ﻗﻮة الممالك ﻋﲆ ﺗﺨﻴﻞ اﻷﻣﻢ، وﻻ ﺗﻨﺠﺮ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت إﻻ ﺑﺎﻟﺘﺄﺛير ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺘﺨﻴﻞ، وﻛﻞ ﺣﻮادث اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﺈﻳﺠﺎد اﻟﺒﻮذﻳﺔ وﺗﺸﻴﻴﺪ أرﻛﺎن المسيحية واﻹﺳﻼم وﻗﻴﺎم اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ، واﻟﺜﻮرة ﻓﻴﻤﺎ ﻣﴣ، وﻛﺈﻏﺎرة اﻷﻓﻜﺎر اﻻﺷﱰاﻛﻴﺔ المزعجة ﰲ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم … إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻗﺮﻳﺒﺔ أو ﺑﻌﻴﺪة ﻟﺘﺄﺛﺮات ﺷﺪﻳﺪة ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﻌﻠﺔ ﰲ أن ﺟﻤﻴﻊ أﻗﻄﺎب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻋﴫ، وﰲ ﻛﻞ أﻣﺔ ﺣﺘﻰ أﺷﺪﻫﻢ اﺳﺘﺒﺪادًا اﻋﺘﱪوا ﺗﺨﻴﻞ أﻣﻤﻬﻢ أﺳﺎﺳا ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﻮﺗﻬﻢ، وﻣﺎ ﻓﻜﺮوا ﻳﻮﻣًﺎ ﰲ أن ﻳﺤﻜﻤﻮا اﻟﻨﺎس ﺑﺪوﻧﻪ . ﻗﺎل ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن ﰲ ﻣﺠﻠﺲ ﺷﻮرى اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ: إﻧﻨﻲ أﺗﻤﻤﺖ ﺣﺮب اﻟﻔﻨﺪاﺋﻴين عندما ﺗﻜﺜﻠﻜﺖ ،واﺳﺘﻮليت ﻋﲆ ﻣﴫ؛ عندما أسلمت وﺗﻮﺟﺖ ﺑﺎﻟﻈﻔﺮ ﰲ ﺣﺮب إيطاليا ﻷﻧﻲ ﻗﻠﺖ ﺑﻌﺼﻤﺔ اﻟﺒﺎﺑﺎ وﻟﻮ ﻛﻨﺖ أﺣﻜﻢ ﺷﻌﺒًﺎ ﻳﻬﻮدﻳٍّﺎ ﻷﻋﺪت بناء معبد سليمان . وﻳﻈﻬﺮ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﻣﻨﺬ اﻹﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ وﻗﻴﴫ من ﻋﻈﻤﺎء اﻟﺮﺟﺎل ﻣﻦ ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮن اﻟﺘأثير ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻣﺜﻞ ﻧﺎﺑﻠﻴﻮن، ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﺘﺄثير ﻫﻤﻪ اﻟﺪاﺋﻢ ﻣﺎ ﻧﺴﻴﻪ ﰲ اﻧﺘﺼﺎراﺗﻪ وﺧﻄﺒﻪ وأﺣﺎدﻳﺜﻪ، وﻻ ﰲ ﻋﻤﻞ ﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻪ، وﻛﺎن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ وﻫﻮ ﻋﲆ ﴎﻳﺮ ﻣﻮﺗﻪ . كما ان التأثير في عقول الجماعات لا ﻳﻜﻮن أﺑﺪًا ﺑﻤﺨﺎﻃﺒﺔ اﻹدراك واﻟﻌﻘﻞ، أﻋﻨﻲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺒﺤﺚ واﻟﺘﻘﺮﻳﺮ، ﺑﺪﻟﻴﻞ أن أﻧﻄﻮان ( ﻟﻢ ﻳﻬﻴﺞ ﻧﻔﻮس اﻷﻣﺔ ﻋﲆ ﻗﺎﺗﻞ ﻗﻴﴫ ﺑﻘﻮة اﻟﺒﺪﻳﻊ وﻋﻠﻢ اﻟﺒﻴﺎن، ﺑﻞ أﺛﺎرﻫﺎ عندما ﻗﺮأ وﺻﻴﺔ المقتول وأﺷﺎر ﺑﺎﻟﻘﻮم إﱃ ﺟﺜﺘﻪ . ان اﻟﺬي ﻳﺆﺛﺮ ﰲ ﺧﻴﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة أﺧﺎذة ﺟﻠﻴﺔ ﻣﺠﺮدة ﻋﻦ اﻟﴩح واﻟﺬﻳﻮل غير ﻣﺼﺤﻮﺑﺔ إﻻ ﺑﻤﺎ ﻓﻴها من ﻏﺮاﺑﺔ أو ﴎ ﻣﻜﻨﻮن، ﻛﺎﻧﺘﺼﺎر ﺑﺎﻫﺮ، أو ﻣﻌﺠﺰة ﺑﺎﻟﻐﺔ، أو ﺟﺮم ﻓﻈﻴﻊ، أو أﻣﻞ دوﻧﻪ اﻷﻣﻞ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺮﻣﻲ اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻠﺔ ﻋﲆ ﻋﻼﺗﻬﺎ وأن ﻻ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻨﻬﻬﺎ أﺑﺪًا؛ ﻷن ﻣﺎﺋﺔ ﺟﺮم صغير أو ﻣﺎﺋﺔ رزء صغير  ﻻ ﺗﺆﺛﺮ أﻗﻞ ﺗﺄﺛير ﰲ ﺗﺼﻮر اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت، ﻟﻜﻦ ﺟﺮﻣًﺎ واﺣﺪًا ﻛبيرا أو رزءًا كبيرا  واﺣﺪًا ﻳﺆﺛﺮ ﻓﻴﻪ أﺛﺮًا ﺷﺪﻳﺪًا وإن ﻗﻞ ﴐره ﻛﺜيرا ﻋﻦ ﴐر المئة الرزء ، و برهان ذلك اﻧﻘﻄﻌﺖ أﺧﺒﺎر إﺣﺪى ﺑﻮاﺧﺮ اﻷﻃﻼﻧﻄﻴﻖ ﻓﻈﻦ أﻧﻬﺎ ﻏﺮﻗﺖ، وﻛﺎن ﻟﺬﻟﻚ ﰲ ﺧﻴﺎل اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﺗﺄثير  ﻛﺒير دام ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ أﻳﺎم، ودل اﻹﺣﺼﺎء اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻋﲆ ﻏﺮق 850 ﻣﺮﻛﺒًﺎ ﴍاﻋﻴٍّﺎ و203 ﻣﺮﻛﺐ ﺗﺠﺎري ﰲ ﺳﻨﺔ  1894 وﺣﺪﻫﺎ، ﺿﺎع ﻣﻌﻬﺎ ﻣﻦ اﻷرواح واﻷرزاق ﻣﺎ ﻻ ﺗﻘﺪر ﻗﻴﻤﺘﻪ وﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﺎﺧﺮة ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻮ ﻓﻘﺪت، وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺸﺘﻐﻞ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺬه اﻟﺨﺴﺎرة ﻟﺤﻈﺔ واﺣﺪة ، ﻧﺘﺞ ﻣﻦ ﻫﺬا أن اﻟﺤﻮادث ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت، ﺑﻞ المؤثر ﻫﻮ ﻛﻴﻔﻴﺔ وﻗﻮﻋﻬﺎ وﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻤﺜﻴﻠﻬﺎ، أﻋﻨﻲ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ﺻﻮرة أﺧﺎذة تملأ اﻟﻔﻜﺮ وﺗﻀﻴﻖ ﻋﻠﻴﻪ، وﻣﻦ ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﺆﺛﺮ ﰲ ﺗﺨﻴﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت ﻋﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﻘﻮدﻫﺎ . 

Tuesday 28 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 8

تناولنا في المقالة السابقة افكار الجماعات ، وفي هذه المقاله  سوف نتناول تعقل الجماعات ، لا يمكن القول مطلقا بان الجماعات لا تعقل ولا تتاثر بالمعقول غير ان طبقة الادلة التي تقيمها هي تاييدا لامر من الامور او التي تؤثر عليها منحطة جدا من الجهه المنطقيه فلا فلا يصدق عليها اسم الدليل الا من باب التشبيه . وتلك الادله المنحطه مبينه على قاعده الاساس كالادله الراقية . الا ان رابطه الافكار التي تقرنها الجماعات ببعضها من حيث المشابهه او التلازم ظاهريه لا حقيقيه ، فهي تتسلسل عندها كما تتسلسل الادله في ذهن الرجل الاسكيماوي الذي عرف بالتجربه ان الثلج هو جسم شفاف يذوب في الفم ، فاستنتج من ذلك ان الزجاج و هو شفاف ايضا يجب ان يذوب في الفم او كالمتوحش الذي يتصور ان اكل قلب العدو الشجاع ينقل شجاعته الى الآكل او كالاجير الذي هضم المعلم حقه فقال ان جميع المعلمين هضامون للحقوق . والحاصل ان تعقل الجماعات عباره عن الجمع بين اشياء متخالفه لا رابط بينها الا الظاهر ، والانتقال الفجائي من الجزء الى الكل ومن التخصيص والتعميم بلا ترو ،و الادله التي يقدمها اليها اولائك الذين عرفوا كيفيه قيادتها كلها من هذا الطراز لانها هي الادله التي تؤثر فيها بخلاف سلسله من الادله المنطقيه فانها لا تدركها بحال .لذلك صح القول بانها لا تعقل او هي تعقل خطأ لانها لا تتأثر بالمعقول . وكثيرا ما يعجب الانسان عند مطالعه بعض الخطب من التاثير العظيم الذي احدثته في سامعيها على ما بها من الضعف و الركاكة . وكأني بالمتعجب و قد نسي ان تلك الخطب انما صيغت لكي تؤثر في الجموع لا ليقراها العلماء . الخطيب الخبير باحوال جماعته يعرف طريقه استحضار الصور التي تجذب بها ، فاذا نجح فذلك ما اراد و لو القيت خطب في عشرين مجلد بعد ذلك ما كان لها من التأثير ما أحدثته تلك الكليمات التي دخلت في الرؤوس المراد اقناعها .  وغني عن البيان ان عدم قدره الجماعات على التعقل الصحيح يذهب منها بملكة النقد اي يجعلها غير قادره على تمييز الخطا من الصواب ، وان تحكم حكما صحيحا في امر ما . اما الافكار التي تقبلها هي فهي التي تلقى اليها لا التي يناقش فيها . و الذين لا فرق بينهم وبين الجماعات في هذا الباب كثيرون ، و سهوله انتشار بعض الافكار و صيرورتها عامة ات على الاخص من عدم قدره السواد الاعظم على اكتساب الراي عن طريق النظر الذاتي .

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 7

تكلمنا في المقالات السابقة عن أخلاق الجماعات و في هذه المقالة سنتناول افكار الجماعات و تعقلها و خيالاتها . تنقسم أفكار الجماعات الى قسمين : الاول الافكار العرضية الوقتية التي تولدها بعض الحوادث لساعتها كالولوع بفرد من الافراد أو مذهب من المذاهب . و الثاني الافكار الاساسية التي تكتسب من البيئة و الوراثة و الرأي ثباتا . مثال ذلك العقائد الدينية سابقا و الافكار الديمقراطية و الاجتماعية في وقتنا هذا . فالافكار الاساسية اشبه بالماء الذي يجري في النهر بطيئا ، و الافكار العرضية تشبه الامواج الصغيرة المتغيرة على الدوام التي تضرب وجه ذلك الماء . و هي مع قلتها أظهر أمام العين من سير النهر نفسه . و كيفما كانت الافكار التي تلقى في نفوس الجماعات فانها لا تسود و لا تتمكن الا اذا وضعت في شكل قواعد مطلقة بسيطة لتبدو لها في هيئة صورة تحسنها . و ليس بين هذه الافكار المصورة اقل رابطة عقلية من التشابه أو التلازم ، فيجوز ان يحل بعضها محل بعض ، ذلك هو سبب قيام الافكار المتناقضة عند الجماعات جنبا الى جنب ، و على هذا الاساس تأتي الجماعات بأشد الاعمال تناقضا و تضاربا . ان تأثير صحة الفكر قليل جدا في السواد الاعظم من الناس . و لكن متى ما تمكن الفكر من نفس الجماعة كان له قوة لا تعارضها قوة و انتج اثارا متعددة لا بد من الرضوخ لحكمها . قطعت الافكار الفلسفية التي ادت الى الثورة الفرنسية في سيرها نحو نفوس الجماعات ما يقرب مئة عام ، و كل يعلم مقدار قوتها الجارفة بعد أن تمكنت منها . فهبت امة بتمامها لنيل المساواة الاجتماعية و تحقيق الحقوق المعنوية و اقامة صرح الحريات الذي تنتهي اليها الامال ، فزعزعت التيجان و جعلت عالي الغرب سافله ، إذ تساجلت الامم الاوروبية بالحروب عشرين عاما و شهدت القارة الاوربية من سفك الدماء و قتل النفوس ما ينخلع له قلب تيمور لنك و جنكيزخان ، مشهد لم ير البشر قبله الى اي حد يصل هول الفكر اذا انبثق . و كما أن وصول الافكار الى نفوس الجماعات يقتضي زمنا طويلا كذلك خروجها منها . لهذا كانت الجماعات دائما متأخرة في أفكارها عدة اجيال عن الفلاسفة و العلماء ، و كل رجال السياسة يعلمون اليوم ما في الافكار السياسية الحالية من الخطأ و لكنهم يعلمون ان سلطانها لا يزال متمكنا من النفوس لذا هم مضطرون في قيادة الامم الى مراعاة مقتضياتها ، و ان لم يعتقدوا شيئا من صحتها . 

Monday 27 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 6

سنتكلم في هذه المقالة عن أخلاق الجماعات ، في الحقيقة اذا اردنا بالاخلاق بما اصطلح العموم على مراعاته و قمع النفس عن الاسترسال مع نزعات حب الذات فليست الجماعة أهلا لشئ من ذلك لشدة نزقها و عدم ثباتها ، لكن اذا ادخلنا ضمن معنى هذا اللفظ التخلق مؤقتا ببعض الصفات كإهمال الذات و الاخلاص و التنزه عن الغاية و تضخية النفس و الميل الى الانصاف ، جاز أن نقول بأن الجماعات أهل للتجمل بأخلاق عالية . أما السبب الذي حدا بعلماء النفس الذين بحثوا في احوال الجماعات الى الحكم عليها بانحطاط الاخلاق ، فهو كونهم قصروا بحثهم على جهة الشر فيها فلاحظوا أن أعمالهم من هذه الجهة كثيرة . نعم هذا هو الغالب في الجماعات ، و علته أن العصور الماضية تركت شيئا من شرها و خشونتها بقية اطمأنت و استقرت في قلب كل واحد منا ، و لكن الفرد منا لا يجرؤ في الاسترسال مع هذه البقية خشية الوبال الذي ستجلبها عليه ، أما الجماعة فغير مسؤولة عن اعمالها فاذا هو انخرط فيها امن العقاب فانفلت من عقاله فاتبع هواه . فشهوة الايذاء عند الجماعة كشهوة الصيد عند المغرمين به . بقي أن الجماعة كما أنها أهل لارتكاب القتل و التدمير و كل أنواع الجرائم ، هي كذلك أهل للاخلاص في العمل و لتضحية المنافع الذاتية و النزاهة بدرجة ارقى مما يقدر الفرد . بل هي أقرب منه الى تلبية من يناديها باسم الشرف و الفخار أو باسم الدين و الوطن الى حد المخاطرة بالارواح . و من ذلك أن دعى البابا اوربان الثاني اوربا المسيحية لانقاذ قبر المسيح من المسلمين حتى اجتمعت من كل انحاء اوربا جحافل الصليبيين التي انقضت على الشرق انقضاض المفترس على فريسته . و كم من جماعة تقدمت الى الموت في سبيل معتقدات و أفكار و كلمات كانت تكاد لا تفقه شيئا من معانيها . ثبت مما تقدم أن الجماعة كما أنها تميل الى الدنايا هي اهل للتحلي بأخلاق عالية و اذا صح أن يكون التنزه في العمل و الجلد و الاخلاص المطلق لمبدأ وهمي أو صحيح من الفضائل الادبية جاز القول بأن للجماعة في الغالب من ذلك ما ليس لأعقل الحكماء الا قليلا حقا ، و هي تزاول تلك الفضائل لا عن قصد و انما بمخض غريزتها . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 5

نكمل في صفات الجماعات و نتناول الصفة الخامسة و هي عدم مسالمة الجماعات و ميلها الى التسلط و الامرة و المحافظة على القديم ، حيث ان الجماعات لا تعرف من المشاعر الا ما كان متطرفا و هي بذلك إما ان تقبل الاراء و الافكار بجملتها او ان ترفضها جملة كذلك فليس عندها توسط . الامرة و عدم الاحتمال حاستان من الحواس التي تجيد الجماعة معرفتها ، فهي تدركهما بسهولة و تتلقاهما بسهولة و تعمل على مقتضاها بسهولة عند الطلب ، وهي تحترم القوة و تخنع لها و لا تتأثر بالحسنى الا قليلا لانها في تصورها صورة من صور الضعف ليس الا ، لذلك الجماعات لا تفضل الرؤساء الذين يتصفون بالرفق و اللين بل تفضل الطغاة المستبدين ، لمثل هؤلاء تقيم الجماعات التماثيل في كل عصر و أوان . الجماعة على استعداد دائم للإنتفاض على القائد اذا ضعف و هي تحني الرأس امام الوازع المنيع فإن تناوبه ضعف عاملته بمقتضى مشاعرها المتطرفة فتنتقل من الخنوع الى الفوضى . و لقد يخطئ القائل بأن الروح السائدة على الجماعات هي الثورة و الذي يوجب الشبهة هو قسوتها و عنفها ، و الحقيقة أن انفجار هائل للثورة و صدور اعمال تخريب عنها بنزعة عرضية تخمد سريعا لأن خضوعها لفعل الوراثة شديد بقوة تأثير الغرائز الفطرية ، فهي ميالة كل الميل الى المحافظة على الحال التي هي عليها . و من الصعب أن نفهم التاريخ و لا سيما تاريخ ثورة الامم اذا لم نكن على علم تام بتأصل المحافظة في نفوس الجماعات ، فقد تبغي الجماعة ان تغير استبدال اسماء انظمتها و قد تثور الثورة العنيفة في سبيل ذلك التغيير و لكن هذه الانظمة تبقى كما هي و الذي يتغير في الحقيقة هي الاسماء فقط ، فهي تعود دائما الى ما تلقته من الاباء و الاجداد ، فهي ترجع اليه على الدوام . و أما تقلباتها المستمرة فهي لا تتعلق الا بالمسائل العرضية اما الجوهر لا يتغير ، فالحاصل ان الجماعات محافظة يبلغ احترامها للتقاليد حد العبادة و تبغض اشد البغض بفطرتها كل ما هو جديد ، و لو أن سلطة الديمقراطية بلغت ايام اختراع الصنائع الميكانيكية و اكتشاف البخار و السكك الحديدية ما بلغته الان لاستحال تحقيق هذه المخترعات او لكان ثمنها كثير من الثورات و ازهاق ملايين الانفس . فمن حسن حظ الحضارة أن سلطة الجماعات ما بدأت في الظهور الا بعد أن تم تحقيق هذه الاكتشافات العظيمة العلمية و الصناعية .

Sunday 26 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 4

نكمل في صفات الجماعات و نتناول الصفة الثالثة لهم و هي غلو المشاعر و بساطتها سواء أ كانت طيبة أو رديئة و من هذه الجهة انعدام الفرق بين الفرد مجتمعا و الكائن البدائي ، و مما يزيد في غلو مشاعر الجماعة ان كل احساس يتولد ينتشر بسرعة بفعل العدوى النفسية التي تكلمنا عنها سابقا و اجماع الكل على قبول ذلك الاحساس يزيد في قوته كثيرا مهما يكن بسيطا و ساذجا . غلو المشاعر و بساطتها يجعلانها لا تعرف الشك و التردد فهي كالنساء تذهب الى الحد الاقصى تماما و الشبهة مهما تكن تنقلب الى شئ بديهي لا يقبل الشك ، و الرجل المنفرد عندما ينفر من شئ معين لا يتعدى نفوره عدم الرغبة فيه اما الفرد الذي في جماعة فيتحول نفوره الى حقد شديد . و تزداد شدة المشاعر غلوا على الاخص في الجماعة المؤلفة من افراد غير متشابهين لفقدان تبعة الاعمال من بينهم ، فيتولد عندها من المشاعر و تأتي من الاعمال ما يستحيل صدوره عن الفرد الواحد لتحقق كل من عدم وقوعه في العقاب . و كلما كان العدد كبيرا قوي فيه هذا الاعتقاد و شعر بقوة حاضرة عظيمة ، هناك ينسى الجبان و الجاهل و الحسود درجة انحطاطهم و ضعفهم و يحل محلها خيال قوة وحشية و قتية و لكنها هائلة . و من نكد الطالع أن غلو مشاعر الجماعات يظهر غالبا في الشر ، و تلك مما ورث أهل هذا الزمان عن ابائهم البدائيين و هي مشاعر يرد جماحها الرجل المنفرد مسوقا بعامل الخوف من العقاب  و هذا هو السبب في سهولة انقياد الجماعة الى أقبح درجات التطرف ، و مع ذلك فممكن للجماعة ان تقوم بأكرم الاعمال و الفضائل اذا حسن التأثير فيها .و كما أن الجماعة تغالي في مشاعرها فلا يؤثر فيها الا المشاعر المغالى فيها ، فالخطيب الذي يريد ان يجتذب قلوب الجماهير يلزمه كثير من التوكيدات الحادة لأن المبالغة و التوكيد و التكرار و عدم التعرض الى اقامة البرهان و الدليل على اي قضية كلها وسائل يعرفها الخطباء حق المعرفة . فعلى الخطيب الذي يريد ان يؤثر في جمهوره ان يكثر من المبالغة و التوكيد و التكرار و ان لا يعتمد على البرهان العقلي لان العقل لا يؤثر في الجماعات و لو قليلا كما قلنا سلفا . 

Saturday 25 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 3

ان سرعة تصديق الجماعة ليس هو السبب الوحيد في اختراع الاقاصيص التي تنتشر بسرعة بين الناس بل لذلك سبب اخر و هو التشويه الذي يعتور القصة في مخيلة المجتمعين ، اذ تكون القصة الواقعية بسيطة للغاية فتنقلب صورتها في خيال الجماعة بلا ابطاء لان الجماعة تفكر بواسطة التخيلات و كل تخيل يجر  الى تخيلات ليس بينه و بينها أدنى علاقة معقولة . و لقد كان يجب أن يتعدد صور التشويش التي تدخلها الجماعة على حادثة معينة شاهدتها و ذلك لتنوع أمزجة الافراد التي تتكون عنها هذه الصور متباينة بالضرورة ، لكن المشاهد غير ذلك حيث ان اول تشويش و تخيل شاهده احد افراد الجماعة ينتقل الى باقي الافراد بالعدوى النفسية . فلنفسر ما هي العدوى النفسية بمثال ، و لنبدأ برواية واقعية من أظهر الادلة في موضوع العدوى النفسية رواها ربان السفينة جوليان فيليكس في كتابه الذي الفه في مجاري مياه البحر قال: كانت المدرعة ( لابيل بول ) تبحث في البحر عن الباخرة (بيرسو) حيث كانت قد انفصلت عنها بفعل عاصفة شديدة ، و كان النهار و الشمس صافية ، و بينما هي سائرة اذا بالرائد يشير الى زورق يساوره الغرق فشخص رجال السفينة بأبصارهم الى الجهة التي أشار اليها الرائد فرأو جميعا من عساكر و ضباط الزورق الذي يغرق جليا واضحا و سمعوا ضجيج الناس يصرخون و يصيحون طالبين النجدة ، في الحقيقة كان كل ذلك خيالا ، حيث لما اقتربوا منهم وجدوا مجموعة من أغصان الاشجار مغطاة بأوراق قطعت من الشاطئ القريب ، فتجلت الحقيقة و غاب الخيال هذا يبين لنا تأثير العدوى النفسية ضمن المجموعة حيث أن انبعاث فكرة من وحي خيال احد افراد المجموعة ينتقل الى جميع افراد المجوعة عن طريق العدوى النفسية . كما أن ليس من الضروري أن تتكون المجموعة من عدد كبير من الناس حتى تنعدم فيهم حاسة ابصار الاشياء على حقيقيتها ، و تبدل الحقائق الى خيالات لا ارتباط معقولا بينها ، بل انه متى ما اجتمع عدد من الافراد تألفت منهم جماعة حتى و ان كانت هذه الجماعة متألفة من اكابر العلماء ، ففي الحال تنطفئ ملكة التمييز و النقد في كل واحد منهم . 

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 2

سنتكلم عن صفات الجماعات في هذه المقالة و المقالات  القادمة ، ان اهم ما تتميز به الجماعات هو قابليتها للاندفاع و التقلب و الغضب ، فالافعال الصادرة عن الجماعات ليس للعقل اي تأثير فيها و انما تكون طوعا للمؤثرات الخارجية ، فالجماعة تكون العوبة بيد المهيجات الخارحية ، نعم قد يقع الفرد تحت تأثير تلك المؤثرات عينها في حال كونه منفردا غير موجود ضمن جماعة الا انه يحكم رأيه فلا ينقاد لحكمها اما الجماعة فهي عاطلة عن مثل هذا الضبط و الكبح . تتبع الدوافع المختلفة التي تبعث الجماعة الى الفعل طبيعة المؤثرات التي ترجع اليها و على هذا يمكن ان تكون الجماعات رحيمة او قاسية و ممكن ان تكون مجرمة او شجاعه حسب طبيعة المؤثرات الخاضعه لها ، و لما كانت انواع المؤثرات الخاضعه لها الجماعة مختلفة لزم منه ان تكون الحماعة متقلبة ايضا ، و هذا السبب الذي يجعل الجماعة تنتقل من اكثر الاعمال رحمة و كرما الى اكثرها فظاعة و وحشية ، فما اسهل ان تصير الجماعة ضحية و لكن  ما اسهل ان تكون جلادا و على هذا لا يوجد اي من اعمال الجماعة ما يكون خاضعا للفكر المتأن و الروية و انما تكون خاضعة تماما للمؤثرات الخارجية فهي كاوراق الشجر التي تحركها الرياح حيث شاءت . ليست قابلية الاندفاع و التقلب هي الصفة الوحيدة التي تمتاز بها الحماعة فهي كالهمجي الذي لا يطيق وجود حائل بين ما يرغب و بين تنفيذ تلك الرغبة فتصور المستحيل عنده غير موجود ، فهو ما إن تعن له رغبة حتى يسعى في تحقيقها فليس للمحال عنده وجود  . الصفة الاخرى للجماعات هي قابليتها على التأثر و التصديق ، فكيفما ظهرت على الجماعات شارات الهدوء و السكون ، فهي عند أول مؤثر تراه يخضعها له و في الحال تتجه جميع الافكار و المشاعر الى غرض واحد ، و سواء كان ذلك الغرض هو حرق قصر او اتيان عمل كريم فانها تندفع نحوه بسهولة و الامر يتوقف على طبيعة المؤثر و ليس على رجاحة العقل في اتيان الفعل او الاحجام عنه كما في الافراد . و لما كانت الجماعات محلقة على الدوام في فضاء اللاشعور فانها تتأثر بسهولة بجميع المؤثرات التي تخضع لها فهي مجردة تماما عن ملكة النقد و التمييز .

Friday 24 April 2020

روح الجماعات ، غوستاف لوبون ، الجزء 1

الجماعات بالمعنى المتعارف عليه لفيف من القوم مطلقا و ان اختلفوا جنسا و  عرقت ذكورا او اناثا و على اي نحو اجتمعوا اما في علم النفس فلها معنى اخر  ففي بعض الظروف يتولد في جمع من الناس صفات تخالف كثيرا صفات الافراد المؤلف منها  الجمع حيث تختفي الذات الشاعرة و تتوجه مشاعر جميع الافراد نحو صوب واحد فتتولد من ذلك روح عامة وقتية ولكنها معروفة و واضحة و حينئذ يصير ذلك الجمع من الناس ما اسماه غوستاف لوبون الجماعة المنظمة او الجماعة النفسية . ان اختفاء الذات الشاعرة و توجه الافكار و المشاعر لافراد الجمع نحو غرض واحد و هما الصفتان الاوليان للجماعة ابان انتظامها لا تستلزمان دائما وجود اشخاص عديدين في مكان واحد بل قد تتوفر شروط الجماعة النفسية في الاف الاشخاص وهم متفرقون اذا تاثرت نفوسهم بحادث جلل كفاجعة اصابت الامة و قد تتالف الجماعة من بضعة عشر شخص و قد تصبح الامة كلها جماعة نفسية اذا وقع عليها مؤثر واحد . و متى ما تكونت الجماعة النفسية عرض لها صفات مؤقتة ولكنها ظاهرة يمكن تحديدها . اهم ما تمتاز به الجماعة هو ان افرادها يكتسبون صفات و افكار موحدة تختلف عن صفات كل فرد فيما لو كان منفردا تمام الاختلاف . كما ان الافراد المنضوون لنفس المجموعة يكون عندهم المستوى الفكري لديهم ضحل جدا فالفرق بين عالم رياضيات و صانع الاحذية كالفرق بين السماء و الارض فيما لو كانوا منفردين غير منضووين تحت جماعة و لكن الفرق بينهما في حال كونهما منضووين تحت جماعة يكون ضئيلا للغاية اذا لم نقل معدوما . لذلك يتبين عدم مقدرة الجماعات على الاتيان بالحلول للمسائل التي تحتاج الى تفكير عالي و عقل راجح فالقرارات التي يتخذها جمع من نخب الرجال حول موضوع معين لا تكاد تكون افضل من القرارت التي يأتي بها مجموعه من البله فالغالب على الجماعات هو البلاهة لا الفطنه .ان الفرد الذي يكون ضمن جماعة يكون كالمنوم مغناطيسيا فيقوم بما يلقنه اياه المنوم المغناطيسي فلا يعود لذاته الشاعرة وجود فيترك لنفسه اللاشاعرة الاسترسال بالتحكم به فالمنوم المغناطيسي هنا هو الجماعة , فهذا السبب الذي يجعل الفرد يكتسب صفات جديدة لم تكن موجودة فيه عندما كان منفردا . و ان انتقال الصفات لجميع الافراد يتم عن طريق العدوى النفسية التي يسهل ملاحظتها و لكن يصعب فهمها و تفسيرها و هنا تغيب الذات الشاعرة و تتلاشى الارادة و تتوجه جميع الافكار و المشاعر نحو الغرض الذي رسمه المنوم و هي الجماعة . و من هنا يهبط الفرد درجات من سلم المدنية عندما ينتمي الى الجماعة فقد يكون رجل مثقف مهذب الطباع و الاخلاق و لكنه في الجماعة يكون ساذج ففيه اندفاع الرجل الهمجي و شدته و قسوته و فيه حماسته و شجاعته و فيه سهولة التأثر بالالفاظ و الصور مما لم يكن فيه و هو خارج الجماعة ثم فيه ذلك الانقياد الى ما فيه مناقضة بديهية لطباعه التي اشتهر بها فهو اشبه بحبة الرمال التي تذروها الرياح أنى شائت .